حول قصيدة محمد إقبال عن مسجد قرطبة

محمد إقبال من أعظم شعراء و فلاسفة  الهند المسلمين  ، لقاؤه مع مسجد قرطبه؛

زار محمد إقبال رحمه الله الأندلس و قرطبه عام 1932م ، فأثار شجونه مسجد قد خلى من عبادة الله ، و صار يعبد فيه من يزعم النصارى أنه الرب ابن الله ، فطلب من حاكم قرطبة الإسباني أن يأذن له بالصلاة فيه ، فأذن له ، و كان اول من صلى فيه جهارا منذ ستة قرون بعد احتلاله من الفرنجه و خروجه من حكم المسلمين ، ثم كتب محمد إقبال قصيدته الشهيرة عن مسجد قرطبه .
--------------------------

حول قصيدة محمد إقبال عن مسجد قرطبة  

قصر التاريخ ومسجـدهُ ما أروع ما صنعتْ يدهُ

للقوم بصدر حكايتــه صـوت ما زال يردِّدهُ
ظمأ لا رِيَّ لـه وبــه طلب الظمآن ومقصدهُ
يزداد برؤيتـه ولَـهـًا ويريد يقـوم فيقـعِدهُ
وكأن علائـق زينـتـه خفقات القلب ومعقدهُ
في الصخر فنون سرائرنـا بلطائـفـنا نتـعهدهُ
ليَهيج رنيـنُ جوانـبـه بأنيـن الروح نُـزوِّدهُ
يا ظل الغرب ودوحتـه من ذا تاريخك يجـحده ؟
بك أضحت تربة أندلسٍ حرما في الغرب نمـجِّده
لا نِدَّ لـه في سـؤدده إلا الإيـمان وسـؤددهُ
عربـيُّ اللحن حجازيٌ روح الإسلام تخـلِّــدهُ
يمـنـيُّ العطر تهبُّ بـه أنسـام الشـام وتحشدهُ
*****
ولم ينس إقبال أن يقارن بين جمال الفسيفساء في المسجد وجمال النفوس المؤمنة التي أبدعت تلك الفسيفساء، فما ذاك إلا انعكاس لهذا.

يحـكيــك جمالا وجـلالا رجـلٌ لـلـه تعـبُّدهُ
وحماسُ ضحاه ووجدُ مسـاه وما يخـفيه له غَــدهُ
ومسرَّتـه ومحبَّتـــــه وتواضعــه وتـودُّدهُ
عذب الكلمات خفيف الروح رقيق القـلب مسـهَّدهُ
أبديُّ الحب نقــيُّ الحرب مَصون العرض مهنَّـدهُ
وعلى يده لله يـــــدٌ بلطيف القدرة تعـضُدهُ
العالم قصـر خلافـتــه وسماء الـعـالم معبَــدهُ
سرُّ الكونيـن برؤيتـــه وعن الكونـيـن تـجرُّدهُ
وسراب العصر بنور الدين ونار الحـــب يـبـدِّدهُ
ومن الصور البديعة المشحونة بالدلالات التاريخية ما ورد في القصيدة من تشبيه
أعمدة المسجد بأعمدة النخيل في أرض الشام. 
كنخيل الشام وأعمدهـا شمختْ في المسجد أعمدهُ
تتـألق زرقـة قبتــه وتُقيم اللـيل وتُـقـعِدهُ
وتنـهُّدها في وحدتـها كالطور كواه تـنـهُّـدهُ
*****
و قوله واصفا الطبيعة الخلابة في قرطبة ، ومثيرا الذاكرة التاريخية في نفوس المسلمين : 

تميل سحابـة الوادي فتحكي فيه غطُّـاسا
رمتها الشمس بالياقــوت أكداسا فأكداسا
وأغنية ابنة الفـلَّاح تطرب رغم ركَّتـها
برقـتـها إذا غنَّت وآهتـها وأنَّـتـها
كأن غناءها فيـضٌ يُقِلُّ سفينـة القلبِ
تغازل نهر قرطبــة الذي يذخر بالحـبِّ
هنالك يرتع الساري هنالك تصدح الوُرْقُ
كأن النهر تاريــخٌ يغني فوقـه الشرقُ
ويتحسر إقبال على ضياع ذلك الصرح الإسلامي أيما تحسر : فهل يعقل أن لا يرتفع الأذان على تلك المنارة المهيبة التي احتضنت في ظلالها يوما قوما وحدوا الخالق ؟ وهل يعقل أن ترتفع الصلبان عليها وهي لا تزال مزينة بآيات القرآن ؟ يا لها من فجيعة !!! 
*****
يقول إقبال مخاطبا المسجد :

إن أرضا أنت فيـها لسمـاء للعيـونْ
كيف لم يسمعْ أذانًا أهلُها مـنذ قرونْ ؟
ولا تعجبْ من ذلك ، فصوت الأذان عند إقبال ليس يضاهيه لحن آخر ، وهو القائل : 
ليس في ضوضاء هذي الأممِ نغـمة إلا أذان المسلمِ
******

ويورد إقبال ترجمة لأبيات عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية في الأندلس ، الذي أمضَّتْه الغربة عن بلاده ، وأرهقه البين عن الأهل والأحبة ، ثم أثارت نخلة غريبة كوامن نفسه فقال :
تبدَّت لنا وسْط الرصافة نخـلـةٌ تناءت بأرض الغرب عن بلد النخلِ

فقلتُ شبيهي في التغرُّب والنَّوَى وطول افتراقي عن بنيَّ وعن أهلي …الخ
ثم يكتب إقبال تكملة للأبيات ، فيضفي عليها نفَسا إسلاميا ، وعمقا فكريا ، ويضمِّنها إشارات إلى نهاية الدولة الإسلامية في الأندلس ، التي شهد عبد الرحمن الداخل بدايتها . يقول إقبال في تكملته للأبيات: 

وما ضرَّنا ملـك تركنـاه خلفنا فكل بلاد الله ملـك ذوي العدلِ

سنبني كما كنـا بنينـا لغيرنـا وحاشا لأهل الجود تُوصَم بالبخلِ

إذا نضبتْ أجسادنا من دمائنـا فمنـزلنا ريَّـانُ من غدَق البذلِ
ستذكرنا الدنيا وتندبنا الـورى وتطلب في آثارنا كعبـة الفـضلِ
يقال هنا صلَّتْ وضجَّتْ قلوبهم هنا انتبذت أرواحَها رسُلُ النخـلِ
******
ولا ينسى إقبال أن يكتب قصيدة وهو يودع مسجد قرطبة ، فيبث فيها خلاصة أحزانه وحسرته على الماضي الضائع والحاضر البائس :

صوت المنائر في نسيمك يرقــدُ وصداه في أرواحـنـا يـترددُ
يا توأم الحرم الشريف تطوَّفــت بك ركَّع من عاكفين وسجَّـدُ
سيماك من أثر السجود على الثرى طرب يفوح ونضرة تتـجـددُ
خمدت حقيقتنا وزال بريقـــنا وبريق قرطبة الشريد مخــلَّدُ
ووقفتُ لا نومي حمدتُ ولا السُّرى أتكبد الجرح الذي أتـكـبدُ
*****

تلكم زفرات قلب مفجوع على تاريخ أمة غافلة ، بلغ بها التفريط فيه أن أصبح اليهود يفخرون به ويسرقونه ، كما يخططون الآن لسرقة المسجد الأقصا بأساطير تاريخية هزيلة .. فهل نظل ندرِّس أبناءنا أمجاد نابليون ، وننسى مسجد قرطبة ؟؟!!
--------------------
ضمن الصور مرفقة صورتين لمحمد إقبال رحمه الله تعالى ، واحدة منهما أثناء صلاته في مسجد قرطبة .
منقول من صفحة تاريخ الأندلس وحاضرها

Post a Comment

0 Comments