توطئة:
تعدُّ قصيدة المولد النبوي في الأندلس والمغرب العربي أنموذجاً للشعر الاحتفالي الذي يرتبط بمناسبة دينية، وهي مناسبة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، الذي يُعدُّ من الأعياد الإسلامية التي تتردد في كل عام منذ أمد بعيد، ولعلّ أول من أشار إلى نشأة هذا الاحتفال بعد الفاطميين هـو ابـن خلكان الذي بيّن أن موطنه كان في شمال العراق، فقد ذكر أنّ ابن دحية الكلبي - وهو أندلسي- عمل كتاب (التنوير في مولد السراج المنير)وختمه بقصيدة طويلة عند قدومه إلى إربل سنة 604هـ، وهو متوجّه إلى خراسان، لمّا رأى ملك إربل مظفّر الدين كوكبوري بعمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول من كل عام، مهتماً به غاية الاهتمام "وأنه أعطاه ألف دينار غير ما غَرِم عليه في مدّة إقامته من الاتجاهات الوافرة". وهو ما يؤكد نشأة الاحتفال بالمولد النبوي في المشرق العربي، وليس في بلاد فارس كما ذهب إلى ذلك زكي مبارك الذي قال: "وأغلب الظنّ أن الاحتفال نشأ في بلاد فارس".
وكان بنو العَزَفي في المغرب العربي سبّاقين إلى الاحتفال بالمولد النبوي، وأولهم أبو العباس المتوفّى سنة 633هـ، الذي شرع بتأليف كتاب في ذلك سمّاه "الدرّ المنظّم في مولد النبي المعظّم"، لم يكمله في حياته؛ فأكمله ولده أبو القاسم المتوفّى سنة 677هـ. وقد ذكر في مقدّمة الكتاب أن العزَفيين هم أولُ من دعا إلى الاحتفال بالمولد النبوي في المغرب، وأول من استحدثه هناك حتى أصبح سنّة متبعة من بعدهم، معترفين بأنه أمر مُباح. فالمغاربة بدأوا في إقامة الاحتفال منذ وقت مبكر بدءاً من القرن السابع الهجري، وكتبوا فيه، ودافعوا عن فكرته، وحضّوا عليه، وحرصوا على استمراره. كما دعا الشعراء إلى الاحتفال بذكرى المولد النبوي، والاهتمام به بما يليق بهذه المناسبة، فقد أشار مالك بن المرحّل المتوفّى سنة 699هـ إلى ذلك بقوله:
"بلده ألوان الطعام، ويوثر أولادهم ليلة يوم المولد السعيد بالصرف الجديد من جملة الإحسان والإنعام، وذلك لأجل ما يطلقون المحاضر والصنائع والحوانيت، يمشون في الأزقّة يصلون على النبي -عليه السلام-، وفي طول اليوم المذكور، يُسمع المسمعون لجميع أهل البلد مدح النبي -عليه السلام-، بالفرح والسرور والإطعام للخاص والعام، جارٍ ذلك على الدوام، في كلّ عام من الأعوام".
ولعلّ اهتمام النصارى من أهل الأندلس والمغرب العربي بأعيادهم، ومجاورة المسلمين لهم، ومخالطتهم لتجّارهم "ومكاشفتهم عند الكينونة في إسارهم"، أوجد بيئة صالحة ومحفّزة للمسلمين أدت إلى استحداثه، بعد أن بدأ المسلمون هناك مشاركة النصارى احتفالاتهم الدينية من مثل: ميلاد عيسى -عليه السلام-، وينير سابع أيام ولادته، والعنصرة ميلاد يحيى -عليه السلام-، وإهمالهم الاحتفال بمولد نبيهم -عليه الصلاة والسلام-، فترك ذلك أثراً فيهم، كان من أبرز مظاهره إقامة الاحتفال بالمولد النبوي "يتركون به ما كانوا يقيمونه من أعياد النصارى وعوائدهم، التي يجب لمغانيها أن تُعطّل، ولمبانيها أن تُهدم" حتى لا يقع المسلمون في شيء يزعج عقيدتهم. فضلاً عن أن الظروف الجهادية التي كانت تعيشها تلك البلاد، والعداء المستحكم بينها وبين الإمارات الإسبانية المجاورة - كانت "تلفت الشعراء والأدباء إلى الديار المقدّسة، وإلى المقام النبوي، وإلى سيرته، وخصائصه وشمائله؛ استمداداً للصبر والثبات والشجاعة، وطلباً لعون الله تعالى، يُضاف إلى ذلك بُعد المسافة بين الأندلسيين وبين الديار المقدّسة، وصعوبة السفر وقلة الاستطاعة".
ومهما يكن من أمر فإنّ الاحتفال بالمولد النبوي أصبح في كلٍّ من الأندلس والمغرب تقليداً سنوياً، يجري في شهر ربيع الأول من كلّ عام، وفق ما ذكره المؤرخون والشعراء، قال الشاعر أبو بكر القرشي:
لله في كل عام منه مرتقـــــبٌ
أهلاً بشهرِ ربيعٍ ما استدار لنا
نظل في أفق الخيرات نرصده
ففيه أُنجز للإسلام موعــــده
وقد بالغ الأندلسيون في مظاهر هذا الاحتفال، واستحدثوا أشياء لم يُسبقوا إليها، ومن مظاهر هذا الاحتفال ما كان في احتفال الغني بالله في مولد عام 767هـ في الأندلس، فقد كان الترتيب لتلك الليلة من حيث الحضور ما يمكن أن يعبِّر عن أبهة الملك وعظمة السلطان، إذْ يجلس الملك على أريكة المُلك، ويجلس معه شيوخ القبائل والأشراف ونسباء الملك وأهل العلم، ويجلس بين يديه الصوفية والفقراء، وفي المنخفض من جلسته من المتسببين والمتجردين، وأرباب الخرق والمسافرين والأعجام الواردين، ويتلوهم التجار، قال لسان الدين في بعض مظاهر هذا الاحتفال: "واندفع المزمزم كما تمَّ الترتيب - وهو المخصوص بالمداعي الملكية عهدئذٍ بمزية الإعراب وقراءة القريض المعروف بالحميني – موصلي أهل جلدته بكلِّ مطرب من الغناء، وكلما مرّ بمعنى مثير للوجد لبّته الصوفية الفقراء، بين واجدٍ متواجد، يحدوهم مشيختهم فيحمى الوطيس، ويتدارك الرقص، ويغلب الوجد، ويعلو الصّراخ، والمُسمع يواصل القصائد المنظومة في مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وهكذا وجد السياسيون فرصة مناسبة للتقرّب للعامة والخاصة والشعراء؛ فأحدث ذلك تنافساً قوياً بين الشعراء والوشاحين والزجالين في النظم، حتى راجت بضاعتهم في تلك الليلة ونفقت سوقهم.
ومن مظاهر المبالغة في هذا الاحتفال استحداث المنكانة وصناعتها بشكل يتلاءم مع ساعات الليل، ففي تصميم بعض أجزائها يخصّص مكان توضع فيه بعض المقطعات الشعرية؛ لإنشادها بحيث تسقط مقطعة واحدة من المنكانة بطريقة فنية كلما انقضت ساعة، وهذه المقطعة تؤذن بانتهاء ساعة من الليل، ومن ذلك ما نظمه ابن الخطيب في مولد سنة 767هـ، فمثلاً يقول بعد انتهاء الساعة الأولى:
ساعة أولى من الليل انقضت
شرعت الرضى وافترضت
وفي الساعة الثانية يقول:
مولاي ثانية من ليلك انصرمت
وجمرة الشوق من بعد الوقوف رمت
وفي الساعة الثالثة:
حلف الليل بالثلاث يميناً
ليس يخشى في مثلها أن يمينا
وفي الساعة الرابعة:
برابعة الساعات جئت أخبّر
وللمدح في المولى الهمام أحبّرُ
وهكذا يستمر إلى أن يصل إلى انقضاء الساعة الأخيرة، فيقول:
يا نسيمَ الصبا علـــــى الأوراقِ
فرقة الليل جدّدت لي عهــــداً
قد تقضّت عشْرٌ إلى عُشْر عَشرٍ
لُدغت مهجتي فهل من راقِ
كنتُ اُنسيتُه بيوم الفـراقِ
وتولّت ركابها باستبــاقِ
بيد أن الناظر في هذه المقطّعات -التي نظمت في انتهاء ساعات الليل- يجد أنها تعوزها بلاغة الشعر، وخيال الشعراء في مجملها، بخلاف القصائد الفصيحة الأخرى التي تنشد في تلك المناسبة.
وكان شعر المولديات ميداناً خصباً للشعراء والزجالين، فلم يكن مقصوراً على الشعر الفصيح، بل تجاوز ذلك إلى الشعر الملحون المعروف بالحميني، (وهو شعر شعبي بأسلوب عامي ولغة دارجة)، والموشحات، ومن بين الموشحات التي وصلت إلينا موشح منسوب إلى ابن زمرك الغرناطي، يقول فيه:
يا مُصطفى والخلْق رهن العدمْ
مزيّة أُعطيتَها في القِــدم
مولدك المرقوب لمّا نجــم
ناديتُ لو يُسمح لي بالجــوابْ
أطلعتَ للهدي بغير احتجــابْ
والكون لم يفتق تمام الوجـودْ
بها على كلِّ نبيٍّ تســـود
أنجز للأمة وعدَ السعـود
شهرَ ربيع: يا ربيعَ القلـــوب
شمساً، ولكنْ ما لها من غروب
وعلى الرغم من تنوّع ما يُنشد في ليلة المولد النبوي، فإن مؤرخي الأدب كانوا أكثر اهتماماً بالشعر العمودي الفصيح من غيره، فبدا أكثر حضوراً في مصنفاتهم؛ لمنزلته في النفوس، وقدرته على التأثير، فضلاً عن استقلالية بنائه ونمطيته.
بنية القصيدة المولدية: البناء الشكلي
تعدُّ القصيدة المولدية بنية فنية متكاملة، تنجذب أركانها نحو محور القصيدة وعلّة بنائها، فهي ذات أطر فنية محددة، تواطأ الشعراء عليها؛ إذ اتخذت شكلاً فنياً محكماً، يرى الناظر إليها أن ثمّة تكراراً في بنيتها، وانسجاماً كبيراً في نسقها عند الشعراء كافة، وقد عوّل الشعراء على ما كان في بنية القصيدة العربية الموروثة، وحذوا حذوها في بنيتها وتقاليدها الفنية، وحافظوا على كثير من عناصرها؛ لما لهذا البناء من سلطان على الشعراء في العصور اللاحقة، فإن ما وصل إلينا من شعر يدلُّ على تعلّق الشعراء بالنموذج الموروث في بنية القصيدة، إذ تمثّل قصيدة المولد النبوي صورة من صور التماهي بالأنموذج المثال في بنية القصيدة العربية الموروثة.
وتتسم القصيدة المولدية بوحدة فنية شديدة التماسك بين عناصرها، تبدو في تنوّع مقاطعها، وفي الترابط الدقيق بين الحركة الموضوعية والعملية التصويرية، وهذه الوحدة تعدّ مظهراً من مظاهر جمالها، وتتحكم فيها صرامة فنية تحافظ على فضاء القصيدة العام، وكلُّ مقطع من قصيدة المولد النبوي يؤدي دوراً دلالياً في المبنى الجمالي للقصيدة، يؤكّد شرعيتها الدلالية (الدينية) والجمالية (الفنية)؛ فمن المقدِّمة يكون التخلص إيذاناً بانفتاح القصيدة للمرحلة التالية التي تستوعب الغرض الرئيس للقصيدة الذي يتشكل من "مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر معجزاته، ثم التخلص إلى مدح السلطان، وإطراء تحفيه بهذه الدعوة"، ثم نهاية القصيدة التي تأتي بصورة واعية ومحكمة، ويعدُّ التخلص من المديح النبوي إلى المديح السياسي أو السلطاني عنصراً جديداً أضافه شعراء المولديات، وفرضته طبيعة المناسبة، وطريقة الاحتفال بها؛ إذ إن "الشاعر الحاذق يجتهد في تحسين الاستهلال والتخلّص وبعدهما الخاتمة؛ فإنها المواقف التي تستعطف أسماع الحضور، وتستميلهم إلى الإصغاء".
مقدمة القصيدة:
بدت مقدمة القصيدة المولدية عملاً فنيّاً متقناً، يستمدّ فنّيته من جهد الشاعر الإبداعي، حيث أعطاها الشعراء رعاية كبيرة ؛ لما لها من قيمة فنية مؤثرة، تسترعي عناية المتلقي وتشدّ انتباهه، وهم بذلك يدركون أنه "إذا كان الابتداء حسناً بديعاً ومليحاً رشيقاً كان داعية إلى الاستماع لما يجيء بعده من الكلام".
وتتشكّل مقدمة القصيدة المولدية من واحدة أو أكثر من لوحات الطلل والنسيب والطيف والشيب وغيرها، بيد أن شعراء المولديات لم يتكثّروا من عناصرها، ولم يقفوا عند جزئياتها، أو يسرفوا في مظاهرها كما كان يفعل شعراء عصر ما قبل الإسلام، فهي لوحات لم تعد البيئة الطبيعية والثقافية الأندلسية والمغربية تمدّها بأسباب حضورها في الخطاب الشعري، إلا أنها ظلت تمتلك قدرة متميّزة على الاحتفاظ بكينونتها الفنية؛ لتشكل منفذاً تعبيرياً للنفس، يمتلك عليها مشاعرها عند ساعة الخلق الإبداعي، فقد تنبّه النقاد منذ وقت مبكر إلى ضرورة العناية بمقدمة القصيدة ونهايتها، حيث إن "الابتداء أول ما يقع في السمع، والمقطع آخر ما يبقى في النفس من قولك، فينبغي أن يكونا جميعاً مونقين".
ومع أن الأثر النفسي يبدو جلياً في مقدمة القصيدة المولدية، فإن مكامن قوّة الجهد الإبداعي هي التي تتحكم في اختيار موضوع المقدّمة، وتشكيل تفاصيلها، ومنحها القدرة على تهيئة المتلقي للتفاعل مع الغرض الرئيس، ولم يكن ذلك ملزماً لكل الشعراء، حيث اتخذ الشعراء في قصائدهم نمطين مختلفين في افتتاح قصائدهم: الأول منهما تقديم الشعراء للقصيدة بمقدمة من وحي المناسبة، فيتخذون من الأغراض المختلفة موضوعاً لقصائدهم. والثاني منهما مباشرة الشاعر قصيدته دونما مقدّمة؛ ولعل السبب في ذلك يعود إلى رغبة الشعراء في أن يسترعوا انتباه المتلقين إلى الغرض الرئيس من القصيدة دونما انشغال ذهني بموضوع المقدّمة، قال أبو بكر القرشي:
يحيي الورى برسول الله مولده
تعود فيها لنا البشرى بمقدمـه
لله في كلّ عام منه مرتقــبٌ
وللزمان مواقيت تجــدّدهُ
كما يعود عقيب الليل فرقــدهُ
نظلّ في أفق الخيرات نرصدهُ
أو ارتباط مناسبة المولد النبوي بمناسبة أخرى تستدعي ذلك، مثل مولد سنة 768هـ، إذ رافق هذه المناسبة انتقال السلطان محمد الخامس إلى المشور الذي بناه وأقام فيه هذا الاحتفال، فابن خاتمة الأنصاري قال قصيدة في تلك المناسبة، مطلعها:
قصر أغرُّ وليلة غرّاءُ
عمّتهما الأفراحُ والسّرّاءُ
إذ لم يقدم لقصيدته كعادة الشعراء آنذاك، وإنما باشر موضوعه مباشرة، ومزج بين الإشادة بليلة الاحتفال وبين الإشادة بالمشور الذي تشرف في أن يكون موضع إحياء تلك المناسبة.
ومن الشعراء مَنْ باشر موضوع قصيدته بالتغني بتلك الليلة؛ ليلة الاحتفال بالمولد النبوي والاحتفاء بها، والانبهار بمظاهرها الاحتفالية، قال أبو البركات بن الحاج:
الله أكبر لاحت الأنــــــــوارُ
وترنّحت فيها القلوب بليلــةٍ
لِمَ لا؟ وهذي ليلة اليوم الذي
وصفتْ نفوسٌ وانجلت أفكــــارُ
فيها كؤوس للسرور تُــدارُ
ظهرتْ به في العالم الأســرارُ
فقد باشر أبو البركات قصيدته بالحديث عن مظاهر الاحتفال وأثر المناسبة على الحضور، المتمثّل بإنارة مكان الاحتفال وتزيينه، والراحة النفسية التي تعكسها تلك المناسبة.
وبذلك فقد اختزل بعض الشعراء المقدمة، ودخلوا إلى موضوع القصيدة مباشرة دون تقديم بطلل وغيره، وجعلوا من الباعث الرئيس للقصيدة تقديماً لها، حتى بدت المقدمة تشكّل جزءاً من موضوع القصيدة.
المقدمة الطللية:
تشكّل المقدمة الطللية في القصيدة المولدية بعداً نفسياً عند الشعراء، فهي تحتجن عاطفة ومعنى أعمق مما يدلّ عليه ظاهرها الخارجي، وقد اتخذ الشعراء أنماطاً متعدّدة فيها، وسلكوا اتجاهاً يتماسّ مع الاتجاه الطللي، وإن كانت هذه الأنماط لا تخرج عن المشهد الطللي الموروث، فقد "كانت العرب في أكثر شعرها تبتدئ بذكر الديار والبكاء عليها، والوجد بفراق ساكنيها"، ولعل وقوع الشعراء تحت تأثير بناء القصيدة الموروثة هو الذي هيّأ لهم رسم هذا المشهد من خلال تصوير الشعراء لقسوة الزمن والبيئة، التي يكنّي بها الشعراء عما يقاسونه من معاناة البعد عن الديار المقدّسة التي يعيشونها في حياتهم؛ إذْ إنّ استحضار المعاني الطللية الرامزة إلى المعاناة هو من أكثر المعاني التصاقاً بالحالة العاطفية للنفس البشرية.
فمن هذه الأنماط، الوقوف على الطلل، والتعبير عن حنين الشاعر، ومدى ما يرى فيه تأسياً لنفسه، وريّاً لغليله، يرفد ذلك باستحضار صورة الظعن وحادي الإبل، الذي يريح بنغمات صوته نفس الشاعر من الأوجاع وألم البعاد، قال علي بن لسان الدين بن الخطيب:
بحقّ الهوى يا حُداة الحمولِ
معاهد مرّت عليها السحـاب
أحِنُّ إليها حنين العشــــــــار
فيا سعدُ عرّج عليها الركاب
قفوها قليلاً بتلك الطلـــولِ
ببرق خفوقٍ ودمعٍ هـمـولِ
وأبكي عليها بشجو طويـلِ
ففيها لقلبي شفاءُ الغليـــــلِ
فلم يكتفِ الشاعر بمشهد الرحيل لبيان شدّة لوعته وقلّة حيلته في مرافقة ركب الحجيج، بل أضاف إلى ذلك الصورة السمعية المتأتية من حنين الإبل وصوت البكاء و صوت حداة الإبل، وهم سائرون إلى حيث مهبط الوحي ومثوى الرسول الكريم، وما يستدعي ذلك من طلب التعريج على الديار؛ ليعلّل الشاعر بها نفسه الظامئة لزيارتها، فإنه يستشعر اللذة في قسوة الرحلة ومعاناتها.
وأقام الشعراء المقدمة الطللية على النسق الشعري الذي بُنيت عليه القصيدة العربية الموروثة من حيث سؤال الطلل وعجمته، وطول الليل المثقل بهواجس النفس، بسبب انشغال الشعراء بهواجسهم، وهي صورة متكررة في القصيدة العربية الموروثة، قال أبو الوليد بن الأحمر:
أقمت بتسآل الديار متيّمـا
وأعربتُ في عجْم الطلول عن الهوى
فعيّت جواباً والجوى بي مقيّــد
تطاول ليلي في قصير منامــه
وأشغلتُ نفسي بامتداح محمّــدٍ
لأنْ بين ذي بَيْنٍ أُبينتْ ديارها
بأنفاسِ نفْسٍ قد أُثير أُوارهـا
عليها وأشجاني اُقرَّ قرارهــا
فعيني أنيلتْ بالسُّهاد غرارُهــا
وتلك معالٍ قد أُقيمَ منارُهــا
ويبدو من هذه الأبيات أنّ شعراء المولديات أضافوا عنصراً جديداً إلى هذا النسق بما يمكن أن نسميه التجديد داخل الإطار الموروث، وهو أن شعور الشعراء بطول الليل راجع إلى انشغالهم بمديح الرسول الكريم، وما يجدون فيه من لذّة ومتعة، يستشعرون من خلالها نشوة الكبرياء، ويستمدون منها عزّة نفسٍ، لا يتمنون معها انقضاء الليل على عادة الشعراء.
ومن ذلك مخاطبة شخصيتين وهميتين للتعبير من خلالهما عن معاناته، وآهات نفسه، وجعلهما جسراً يَعْبُرُ الشاعرُ من خلالهما إلى غرضه، قال أبو الحسن بن الحسن:
دَعَاني وإجراء الدموع السواكــبِ
وعوجا على الشرقيِّ من [أرض] رامةٍ
ولا تعذلاني إنني غيرُ آيــبِ
لنقضي في أطلالها بعضَ واجبِ
فقد خاطب الشاعر شخصيتين ليس لهما وجود في واقع حياة الشاعر، إذْ إنَّ "مخاطبة الاثنين تقليدٌ كان شعراء الجاهلية يحرصون على إيراده؛ لطبيعة حياتهم الانفرادية، التي تحتاج إلى الأصحاب والسُّمّار"، وكأنما هذا الخطاب موجه لذات الشاعر؛ التماساً لرفقة تحمي من الشعور بالوحدة والضياع، وللتعبير عن المعاناة في وقت لا ينفع فيه الندم على ما فرط الشاعر في جنب الرسول الكريم.
وبذلك فقد استطاع الشعراء أن يقدموا لقصائدهم بهذه المقدمة بشكل تتجلى فيه قدرتهم الإبداعية على رسم المشهد الطللي، بالرغم من أنهم شعراء مدن وليسوا شعراء صحراء وبادية.
المقدمة الغزلية:
قدّم الشعراء لقصائدهم بمقدمات غزلية كعادتهم في خطابهم الشعري المعتاد، وتأتي هذه المقدّمة حيلة فنية لجأ إليها الشعراء، ووسيلة لتحريك مشاعرهم ومشاعر المتلقين معاً، بيد أنها لا تُحلل من خلال دلالتها الظاهرية في النص الشعري، وإنما من خلال تأويلها تأويلاً دينياً يتسق مع النسق الشعري في القصيدة، فقد اتّسمت هذه المقدمة التي نحت منحى الغزل بالحشمة والوقار، والتسامي بالصفات الحسيّة للجمال، فجرّدت للمعاني الصوفية؛ تعظيماً لصاحب المناسبة؛ إذْ "إن الغزل الذي يتصدّر به المديح النبوي، يتعين على الناظم فيه أن يحتشم ويتأدّب، ويتضاءل ويشبّب بذكر سلع ورامة والعقيق والغريب والغدير ولعلع وأكناف حاجر، فيطرح منه ذكر محاسن المُرد، والتغزل في ذكر الأرداف ورقّة الخصر وبياض الساق وحمرة الخد وخضرة العذار، وما أشبه، وقلَّ مَنْ يسلك هذا الطريق من أهل الأدب". ولذلك نجد أن الشعراء قرنوا المقدّمة الغزلية بروح التديّن، فهي تسير في طريق الغزل العفيف - الذي ساد في أوساط الشعراء هناك - وما يتخللها من معاناة وألم بما يعود إلى المحب "فأكثر ما تبدأ القصائد الأصلية بما يرجع إلى المحب"، ومعاناته، لا بما يرجع إلى المحبوب فالمرأة في لوحة الغزل تأتي رمزاً يختزل أشواق الشاعر إلى الحضرة النبوية، ومن ذلك قصيدة قالها عزيز بن يشت:
القلب يعشق والمدامع تنطــقُ
إن كنت أكتم ما أكنُّ من الجــوى
وتذلّلي عند اللقا وتملقــي
فلكم سترتُ عند الوجود محبّتـي
ولكم أموّه بالطلول وبالكنـى
ظهر الحبيب فلست أبصرُ غيـره
ما في الوجود تكثّر لمكثّـر
فإذا نظرتُ فأنتَ موضعُ نظرتي
بَرِحَ الخفاءُ فكلُّ عضو منطــقُ
فشحوب لوني في الغرام مصدّقُ
إن المحب إذا دنا يتملــقُ
والدمع يفضح ما يسرُّ المنطــقُ
وأخوض بحرَ الكتْم وهو الأليـقُ
فبكلِّ مرئيٍّ أرى يتحقـقُ
إنّ المكثرَ بالأباطل يعلقُ
ومتى نطقتُ فما بغيرك أنطقُ
فهذه المقدّمة لا تختلف عن الغزل العفيف في المعاني والألفاظ، وإنما في تأويل المعاني الواردة فيها، وما توحي به مقاصدها، وما يدلُّ عليه سياقها، فقد نحا فيها منحى الغزل العذري، الممزوج بالمعاني الصوفية، وما تفيض به من عواطف مغرقة في الرمز، بيد أن الشاعر لم يقف عند معاني الصدّ والتمنُّع الرامزة إلى اليأس والإحباط، وإنما تجنّب هذه المعاني لتبقى جذوة الأمل متّقدة في النفس؛ إذ إنَّ هذه المعاني تشير إلى محبّة الرسول -صلى الله عليه وسلّم- "وبهذا استطاع الشاعر أن يمهّد لغرضه بمقدمة فيها عمق الإحساس وصدق العاطفة... وقد تأكّد ذلك من خلال الترابط النفسي والعاطفي بين المقدّمة والأبيات التي أحسن التخلّص فـيها ليصل إلى مـدح النبي الكـريم".
وإذا دققنا النظر في هذه الأبيات وقرأناها قراءة نقدية واعية فإننا نجد أن هذا الجمال لا يدرك إلا في صوره الرفيعة، وأن مبعث الجمال الفني منبعه تلك الصلة التي تنعقد بين الشعر وبين الروح، بعيدة كلّ البعد عما ينعقد بين الأوصاف المادية وبين الغرائز البشرية، فقد ركّز الشاعر على المحاسن المعنوية دون الالتفات إلى محاسن الجسد.
وغالباً ما ترِد أسماء لنساء تردد ذكرها في الشعر العربي مثل زينب وليلى وسعدى ودعد وغيرها، وهي أسماء ليس لها وجود في واقع حياة الشاعر، ووجودها في معرض القصيدة وجود شعري وحسب، بمعنى أن كلّ واحدة منهنّ رمز في وجود فني، حيث يشكل معجم الأسماء في القصيدة المولدية فضاء واسعاً لتوظيف هذه الأسماء ضمن حقل اللغة الشعرية، من خلال إسقاط الأبعاد الدلالية التي يتميز بها كلُّ اسم في حقل من الحقول الدلالية، قال ابن الخطيب:
لي الله كم أهذي بدعد وهاجـــر
وما هي إلا زفرة هاجها الهوى
وأُكني بدعد في غراميَ أو سعدى
وأبدى بها تَذكار يثرب ما أبـدى
وبذلك فإن الشاعر يستثمر ما بهذه الأسماء من طاقة إيحائية للتعبير عن حبه للنبي والأماكن المقدّسة متأثراً في ذلك بطريقة المتصوفة في الرمز.
وقد يأتي هذا الغزل طيفاً يعبّر من خلاله الشعراء عن عمق محبتهم للرسول الكريم وديمومتها، ومدى انشغالهم بأمل زيارة الأماكن المقدّسة التي ضمّت ضريحه الشريف؛ فزيارة الطيف تهيج النفس، وتبعث فيها الفرح والأمل، وتزيل عنها هواجس الهمّ والخوف، قال ابن خلدون:
أبى الطيفُ أن يعتادَ إلا توهُّمـــا
وقد كنت أستهديه لو كان نافعـي
ولكن خيال كاذب وطماعة
أيا صاحبَيْ نجوايَ والحبّ لوعة
خذا لفؤادي العهد من نَفَس الصّبا
فمن لي بأنْ ألقى الخيالَ المسلمـا
وأستمطر الأجفان لو تنقع الظمــا
تعلّل قلباً بالأماني متيّمـا
يبيح بشكواها الضمير المكتمـا
وظبي النقا والبان من أجرع الحمى
بيد أن هذا الطيف لم يكن حقيقياً، وإنما توهّمٌ استحضره الشاعر؛ ليخفّف من برحائه، وشديد مشقته، ومدى الحرمان الذي يعانيه، من شكوى أصيلة في نفسه تتداخل فيها أحلام وهمية، لغاية سامية لا يمكن إنجازها في واقعه.
المقدمة في الشيب:
نظر الشعراء للشيب بوصفه أظهر نذير على تولي الشباب ومتعه، والقرب من الشيخوخة والهرم ومن ثم الفناء. يصعب على الشاعر في هذه الحالة القدرة على زيارة الجناب النبوي، وأداء واجب العبادة. وفي رؤية الشيب تتقد النفس حسرة وألماً على ما فات وليس بمقدوره إعادته، وشعور بدنو الأجل والندم على ما فرّطَ المرءُ في جنب الله. فالتعبير بالشيب هو تعبير عن الإحساس الممضّ بالزمن وحركته، والإحساس بطوله، الذي هو إحساس بشدّة المعاناة وبديمومتها، قال ابن زمرك:
هذا الصباح صباح الشيب قد وضحا
للدهر لونان من نور ومن غسق
إذا رأيت بروق الشيب قد بسمتْ
يلقى المشيبَ بإجلال وتكرمة
سرعان ما كان ليلاً فاستنار ضُحى
هذا يعاقب هذا كلما بَرحـا
بمفرقٍ، فمحيّا العيش قد كلحـا
مَنْ قد أعدّ من الأعمال ما صلحـا
ففي هذا المطلع يظهر تأسّف الشاعر على نفاد سني العمر، وزمن الفتوّة، ومرور أيام الدّعَة واللهو، ولم يتمكن من أداء الواجب الديني تجاه الرسول الكريم، وقد أقام الشاعر المقدمة في الشيب على المفارقة بين مرحلتين من العمر، اعتماداً على ما تؤديه الثنائية المتضادة القائمة على عنصر اللون بين الفتوّة (ليلاً: سواد الشعر) والشيخوخة (هذا الصباح: الشيب)؛ للتعبير عن تضاؤل احتمالية قضاء مآربه الدينية، بعد مجيء الشيب وحلوله ضيفاً في الرأس.
التخلص:
لقد أحسن الشعراء في التخلص من موضوع المقدّمة إلى الغرض الرئيس من القصيدة، فكان الانتقال بصورة شديدة الإحكام، واضحة المعالم، متّزنة، لا يعتريها نبوّ أو ثقل "ويكون جميع كلامه [الشاعر] كأنما أفرغ إفراغاً، وذلك مما يدلّ على حذق الشاعر، وقوّة تصرفه"، شأنهم في ذلك شأن الفحول من الشعراء، بيد أن ما يميز القصيدة المولدية وجود موضعين للتخلّص: أولهما: التخلّص من المقدمة إلى المديح النبوي، وثانيهما: التخلص من المديح النبوي إلى مديح السلطان الذي أحيا احتفال ليلة الميلاد.
1- التخلص من المقدمة إلى المديح النبوي:
اعتاد شعراء المولد النبوي التخلّص من المقدمة إلى المديح النبوي، باستحضار مشهد الرحلة في القصيدة العربية القديمة، التي تمنّى الشعراء أن يعيشوها بجميع تفصيلاتها، وشديد متاعبها ومعاناتها، بيد أن رحلة الشعراء في هذه القصائد هي رحلة إلى الديار المقدّسة، لأداء فريضة الحج وزيارة الضريح النبوي الشريف؛ إذ إن الحديث عن الرحلة يعدّ تعبيراً عن نقطة انطلاق تهيّء في القصيدة حركة باتجاه موضوعها والباعث الرئيس لها؛ فالشاعر يشدّه منظر الحجيج وهم منطلقون لأداء هذه الفريضة، تاركين الشاعر للوعته وحسرته، لما يولّده في نفسه من مشاعر الضيق والألم؛ لأن رحلة الحجيج وما تحرّكه من عواطف دينية جيّاشة، تؤجّج هذه المشاعر التي يحسّها الشاعر، فتصبح أكثر تدفّقاً، وتعطي زخماً قويّاً لعاطفته المتوهّجة؛ إذ ليس بمقدور الشعراء الوصول إلى الأماكن التي درج عليها الرسول الكريم، واكتسبت بسببه قيمة سامية، قال ابن الخطيب:
وركابٍ سروا وقد شمل الليـ
وكأن الظلام عسكرُ زنج
حملت منهم ظهور المطـايا
ستروا الوجد وهو نارٌ وكان السِّـ
خلفوني من بعدهم ناكس الطر
وحدوها مثل القسي ضموراً
وطووا طوع لاعج الشوق والوجـ
مصطفى الله من ظهور النبيئيـ
ــل بمسح الدُّجى جميع النواحـي
ونجوم الدّجى نصول الرماح
أيَّ جِدِّ بحْتٍ وعزم صَـراح
ـتر يجدي لولا هبوب الرياح
ف ثقيل الخطى مَهيضاً جنــاحي
قد برت منهم سهام قداح
ـد إلى الأبطحي غير البطــاح
ـن هداة الأنام سُبل الفلاحِ
فإنّ رؤية منظر قوافل الحجيج وهي ذاهبة إلى زيارة ضريح النبي أعطت زخماً قوياً لعاطفة الشاعر المتوهجة؛ إذْ لم يكن باستطاعته مرافقة هذه القوافل، وزوّار البيت الحرام للتشرّف بزيارة الديار المقدّسة؛ فتهيج عاطفته وشاعريته.
وعلى كلّ حال فإن الشاعر يبقى مشدوداً إلى تلك الديار، يعتلج في نفسه الأمل في زيارة الضريح الشريف، وسيلته في ذلك ناقة قوية قادرة على تحمل الصعاب، كي توصله إلى أمنيته، قال ابن زمرك:
يا هل تبلغني مثواه ناجيـةٌ
حيث الربوع بنور الوحي آهلة
تطوي بيَ القفرَ مهما امتدّ وانفسحا
مَنْ حلها احتسب الآمال مُقترَحا
والناقة في هذا النص الشعري تعبّر عن معانٍ متعددة، ورموز كثيرة، فقد جيء بها للتعبير عن الصبر والأناة وقوّة التحمل في سبيل الوصول إلى الغاية المنشودة، وربما رمز الشاعر في ذلك لنفسه، ورغبتها الجموح في زيارة الضريح الشريف والديار المقدسة. ومن الناحية الفنية فتعدّ الناقة أداة تواصل بين مقدمة القصيدة وموضوعها، ومثل ذلك قال علي بن لسـان الـدين:
يا هل يُبلغني السُّرى خير الورى
وأُسابق الركبان فوق نجيبـة
واحطُّ رحلي في كريم جـواره
فأرى معاهد للهدى ورسومــا
تفري من البيد العِراض أديما
أرجو نعيماً في الجنان مقيمـا
ولعلَّ السبب في ورود هذا المشهد الشعري هو تهيئة المناخ النفسي الذي ينطلق من خلاله الشاعر إلى الباعث الحقيقي للنص وهو المديح النبوي؛ لما يرمز إليه هذا المشهد من البحث عن الوسيلة التي توصل الشاعر إلى الأمان وطوق النجاة، فالرحلة في القصيدة المولدية هي ارتحالٌ تعويضي عبر فضاء القصيدة في الزمان والمكان من الواقع المأزوم الذي يثير الفزع والخوف، إلى الأنموذج المتشكّل في الوعي الجمعي الذي يتجسّد فيه الأمن والخلاص؛ لما في ذلك من طاقة إيحائية متحرّكة، وشاعرية متدفّقة، يزيدها توهّجاً تناغمها مع العناصر الأخرى المشكّلة للنص.
2- التخلص من المديح النبوي إلى المديح السياسي:
يتخلص الشاعر من المديح النبوي إلى المديح السياسي بعد أن يستوفي ذكر معجزات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفضائله وصفاته، ويجعلها سبباً لمديح السلطان، وتبدو براعة الشاعر في أن هذا المديح يبدو جزءاً من المديح النبوي، فيكون الانتقال من المديح النبوي إلى مديح السلطان سلساً ومترابطاً.
وغالباً ما يرتبط الانتهاء من مدح الرسول -عليه السلام- بصيغة (أفعلَ التعجّب) التي يخصّ بها ليلة الميلاد، وهي صيغة تشعر بالتخلّص إلى مدح السلاطين، والاستفاضة بمكارمهم، قال أبو القاسم بن حميد:
أكرِمْ بمولدهِ وليلته التي
طَلعَتْ به شَمْسُ النبوَّة وانجلى
أحيَا أميْرُ المُسلمينَ مُحمّدٌ
ظفرَ الورى فيها بنيْل أمانِ
عنّا ظلامُ الشِّرْك والعُدوانِ
آثارَها بسوابغ الإحْسانِ
وقال ابن خاتمة الأنصاري:
أسعدْ بليلة مولدٍ عمَّ الورى
أحيا بها ليلَ التمام تبرُّكـاً
للمصطفى عنها سنا وسناءُ
ملكٌ لسنّته به إحْياءُ
ولعلّ مردّ استخدام الشعراء صيغة التعجّب هو انبهار الشاعر بليلة الميلاد وتفضيلها على غيرها من الأيام والليالي، وانسجامه مع ذاته الفنية في رؤيته الشعرية، وما يتسق مع ما أحسّه من تفضيل تلك الليلة.
خاتمة القصيدة:
أولى شعراء المولديات نهايات قصائدهم مزيدَ عنايةٍ وكبيرَ اهتمام؛ لمنزلتها في البناء الشعري؛ ولما لها من قيمة فنية عالية، فيها يكتمل الجانب الجمالي والمعنوي للقصيدة، وقد نبّه القدماء على ضرورة الاهتمام بحسن الختام، وسبيل ذلك "أن يكون محكماً، لا تمكن الزيادة عليه، ولا يأتي بعده أحسن منه" ؛ لأنه "منقطع الكلام وخاتمته، فالإساءة فيه معَفِّيَة على كثير من تأثير الإحسان المتقدّم عليه في النفس".
وفي سبيل ذلك هيّأ الشعراء أذهان المتلقّين لاستقبال نهاية القصيدة بأساليب متعددة، فمنهم من جعل خاتمة قصيدته هدية للممدوح ومن ثم الدعاء له، وهو في ذلك يكيل عبارات الثناء على القصيدة التي نظمها، مشبّهاً إياها بفتاة بكر أو غادة حسناء، كي تليق بمكانة السلطان، وترتقي إلى منزلته، ومستوى المناسبة التي قيلت لأجلها، قال أبو القاسم بن قطبة:
يا أيها الملك الذي قد عاودتْ
إنّي جلوتُ لدى بساطك غـادة
فامنُنْ عليها بالقبول فإنهـا
بزمانه الدنيا زمانَ صباهـا
قد طيّبَ الأفواهَ طيبُ شذاها
بِكْرٌ تغارُ إذا تغار سواهـا
ومنهم من جعل قصيدته روضة غنّاء، عناصرها البلاغة والفصاحة والبيان وحسن البناء، قال أبو القاسم بن حميد:
وإليك من روض الكلام حديقةً
جاءت تُريك الدرَّ في الأسلاك أو
فُتحتْ كمائمها بِغُرِّ معانِ
تُهديك أنواراً على أفنـانِ
وقال ابن خلدون:
وهاك غرَّ قوافٍ طيُّها حكمٌ
تلوحُ إن جُليتْ درّاً، وإن تُليتْ
عانيتُ منها بجهدي كلَّ شاردةٍ
يمانع الفكرَ منها ما تَقَسَّمه
لكن بسعدك ذلتْ لي شواردُها
بقيتَ أمرُك في أمنٍ وفي دعـةٍ
مثل الأزاهر في طيّ الرياحيـنِ
تثني عليك بأنفاس البساتينِ
لولا سعودك ما كانت تواتينـي
من كل حُزن بِطيِّ الصدر مكنونِ
فَرُضْتُ منها بتحبير وتزييـنِ
ودام مُلْكُك في نصر وتمكيـنِ
فابن خلدون جعل الممدوح سبباً في وصول هذه القصيدة إلى غايتها الفنية، كما جعله سبباً في اقتناص المعاني اللطيفة، وهو الذي ذلّل للشاعر شواردها.
ويبدو أن الشعراء قد استغلوا هذه المناسبة للتعبير عن قدرتهم الفنية، وبيان صورة من صور الفخر بالذات، والإعجاب بالنفس، والبحث عن الصيت والشهرة، من خلال التفنّن في إظهار براعتهم في النظم، وهي صورة من صور تأكيد عنصر الذاتية والنرجسية في شعر المولديات، وتمحوُر القصيدة حول ذات الشاعر؛ إذ إن الحديث بصيغة الأنا يبدو في القصيدة ظاهرة بيّنة.
ومن الشعراء مَنْ ختم قصيدته بالصلاة والتسليم على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، بصورة تبدو معها الخاتمة على شاكلة ما كان يختم به الخطباء خطبهم الدينية وما شابهها، وتقترب لغتها من لغة تلك الخطب، قال الشاعر أبو إسحق بن الحاج:
وصلى الإله على المصطفى
صلاة تدوم ووالى السلاما
ومن الشعراء مَن يقرن الصلاة على النبي الكريم في خاتمة القصيدة بالصلاة على آل البيت والصحابة -رضوان الله عليهم-: قال عـزيـز بن يشت:
الله يا مولاي يبقي سعدكم
ثم الصلاة على النبي المصطفى
وعلى صحابته الكرام وآله
وينيلكم ما عشتم المأمولا
مَنْ أوضح التحريم والتحليلا
أهدى الورى للمعلوات سبيلا
وبذلك فإن الصلاة على آل البيت والصحابة الكرام لا تأتي مقصودةً لذاتها، بل في معرض الصلاة على الرسول الكريم.
ومن الشعراء من ختم قصيدته بالصلاة على النبي الكريم والدعاء للسلطان، وتتويج هذه الخاتمة بالتنويه بالقصيدة التي قالها، والإشادة ببنائها ومعانيها، فيكون التنويه بالقصيدة جزءاً من القصيدة، واستكمالاً لخاتمتها، قال ابن زمرك الغرناطي:
صلى الإله على المختار صفوته
وأيّد الله مولانا بعصمته
مولاي خذها كما شاءت بلاغتها
كأنَّ سرب قوافيها إذا سنحـتْ
ما العارضُ انهلَّ أو ما البارقُ التمحا
بأيّ باب إلى العلياء قد فُتحا
غرّاء لم تعدم الأحجال والقزحــا
طيرٌ على فنن الإحسان قد صدحا
ومن الشعراء من جعل خاتمة قصيدته الدعاء الخالص للسلطان الذي أحيا ليلة الميلاد، دون أن يمدح القصيدة أو أن يختم بالصلاة على الرسول الكريم، فقد ختم الشاعر أبو جعفر بن جُزيّ قصيدته بالدعاء للسلطان دعاء خالصاً، قال:
أولاك ربُّك كلّ ما أمّلته
في النفس والسلطان والأعقابِ
وبذلك فإن الشعراء كانوا يختمون قصائدهم بخاتمة تتلاءم مع موضوع القصيدة ومناسبتها، وبما ينسجم مع مقدّمتها ومضمونها، حتى تبدو القصيدة مسبوكة سبكاً محكماً، متينة الترابط بين أجزائها؛ لتظهر فيها القدرة الكبيرة والجهد الإبداعي عند الشعراء، في إعطاء القصيدة المولدية قيمة بنائية وجمالية خاصة، مع ما تتضمنه القصيدة من معانٍ مؤثرة بذاتها.
البناء الموضوعي: الأفكار والمضامين
تعدّ القصيدة المولدية في أفكارها ومضامينها ضرباً من المواجد والأشواق المستعرة، فهي قريبة الغور سهلة المتناول، تتفجّر فيها العواطف؛ لما تتضمنه من إحساس صادق تجاه الرسول، وما ينبئ بذلك تجاه الممدوح، فقد جمعت بين نوعين من المديح: المديح النبوي، حيث يأخذ هذا الجزء مساحة نصيّة واسعة في القصيدة المولدية، وغالباً ما يكون أكبر مساحة فيها، ثم المديح السياسي المتمثل بمديح السلطان الذي أحيا تلك الليلة؛ وبذلك فإن قصيدة المولد النبوي تجمع بين المديح النبوي والمديح السياسي "وهذا الجمع لا يأتي في بقية فنون الشعر النبوي، ولا يتمّ إلا في المولديات". كما أن فيها من كثرة المعاني ما يغري الشعراء بالإفاضة بها والتبسّط بعرضها والتفنّن في التعبير الجمالي عنها، فضلاً عما كان يؤثره الشعراء من خلال الميل إلى تلك الأساليب من المبالغة في المديح التي قد تصل أحياناً إلى حدِّ الغلوّ والإغراق، وما فيها من الفخامة التي تنبئ عن عظمة الرسول الكريم والممدوح معاً.
وتعدّ الإشادة بليلة الميلاد ومنزلتها وعلاماتها وما رافقها من حوادث مثل تصدّع إيوان كسرى، وخمود نار فارس وأمارات النبوّة وإرهاصاتها؛ والتنويه بالأماكن المقدّسة والديار الحجازية والتشوّق لزيارتها - مرتكزين رئيسين في القصيدة المولدية.
ليلة الميلاد:
أعطى الشعراء ليلة المولد النبوي اهتماماً كبيراً، وجعلوها عنصراً رئيساً ثابتاً من عناصر القصيدة المولدية، لا مندوحة لهم عن ذكرها، فلا تخلو القصيدة المولدية من مساحة نصيّة لتلك الليلة، فقد أشاد الشعراء بالليلة التي ولد فيها الرسول - صلى الله عليه وسلّم – وانحازوا إلى تعظيمها، وتفضيلها على الزمان، وجعلوها سبباً في ما ناله شهر ربيع الأول من شرف عظيم، وهو بدوره كان سبباً في تشريف شهور السّنة كافّة، قال أبو عبدالله محمد بـن حسّان:
لقد شرّف الله الشهور كرامةً
فيا ليلة أربى على الصبح نورهـا
ومن أجلها الكرسيّ والعرش أبدعا
بها أطلعَ الرحمنُ نورَ هداية
وخصّ بميلاد الرسول ربيعها
محاسنها يجلو الجمالُ بديعهَا
وواصلت الأرواح طرّاً خشوعها
شريعة دينٍ ما ألذَّ شروعهـا
وفي تعظيم تلك الليلة، وتفضيلها على الزمان، قال ابن الخطيب:
فيا ليلة قد عظّم الله قدرها
فصولي على مرّ الزمان وفاخري
وأنجزَ للنور المبين بها وعـدا
بهذا النبي الحالَ والقبلَ والبَعــدا
ومع أن بعض هذه المعاني قد تكررت عند الشعراء فإن مِن الشعراء مَن حاول التفرد في بعضها، فابن الخطيب يكاد ينفرد من بين شعراء عصره في مسألة حمْل آمنة بنت وهب للرسول الكريم، حيث قال:
ولم تشكُ ثِقلَ الحمل آمنةُ الرِّضا
وفي ليلة الميلاد منه بدتْ لهـا
وبشّرها الأملاك أنّ وليدهــا
إلى أن تفرّى الليلُ عن نور وجهه
ولا دُهيتْ منه بكرْبٍ ولا غـمِّ
شواهدُ لم تخطر لنفس ولا وهْـمِ
إمام النبيئين الكرام أولي العـزمِ
كما شفَّ سحبٌ عن سنا قمر تمِّ
فقد أشار إلى أنها لم تتعرض لآلام الحمل، ومعاناة الولادة كغيرها من النساء، واكتفى بالإشارة إلى ما كان من بشارة الملائكة لها بنبوة وليدها.
وقد تكررت عند الشعراء إرهاصات النبوة، وما كان من حوادث رافقت ليلة ميلاده، وما حدث فيها من ظواهر كونية، قال ابن زمرك :
وفي ليلة الميلاد لاحت شواهـدٌ
وغاض لها الوادي وسبّحت الحصا
فيا حُسنها من ليلة أطلع الهـدى
من الحقِّ لا تخفى على مَنْ توسّما
قصورٌ ببصرى أفقها كان أظلما
بآفاقها البدرَ المنيرَ المتمّما
وبذلك فإن معتادي القصيدة المولدية يدركون ما كان يرمي إليه الشعراء من تعظيم تلك الليلة، وهو تعظيمٌ لعنصر الزمان في حياة الرسول الكريم، وتعظيمُ الديار الحجازية وهو تعظيمٌ للمكان في حياته أيضاً، وتقديس الرسول الكريم نفسه هو تقديسٌ لإنسانيته، وفي ذلك كله تبدو الرابطة المتينة بين ثلاثية الزمان والمكان والإنسان في قصيدة المولد النبوي.
إرهاصات النبوّة:
توفّر الشعراء على ذكر إرهاصات النبوّة والتبشير بمجيئه عليه السلام، وهو ما رأوا أو اعتقدوا أنه يتفق مع ما قيل من أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سابق في مجيئه في علم الغيب، وهي واحدة من كراماتٍ خُصَّ بها الرسول الكريم، ومن هذه الكرامات أن الأنبياء قد بشّروا بقدومه؛ إذْ يُعدّ هذا العنصر خاصية لازمت شعر المولديات "ولا تُعرف مولدية من غيرها من النبويات إلا بهذا العنصر"، فقد أشاروا إلى حقيقة وجوده قبل أن يولد، فضلاً عما أكّدته الكتب السماوية التي أُنزلت على الرسل من قبله، قال عبدالله بن سودة:
لولا حقيقته ومعنى ذاتـه
شهدتْ به الأخباروالأرسال
ما لاحَ حقٌّ وانجلى مدلـولُ
والفرقان والتوراة والإنجيلُ
وقال ابن زمرك في اعتراف توراة موسى -عليه السلام- بفضل محمّد -عليه الصلاة والسلام- قبل مجيئه، وتصديق ما ورد في الإنجيل الذي أنزل على عيسى -عليه السلام-:
قد اعترفت توراة موسى بفضله
وصدّقه إنجيل عيسى ابن مريما
ولم يكتفِ الشعراء بمثل هذه الكرامات وما ورد عن الأنبياء والكتب السماوية، بل أشاروا إلى ما بشّر به الكهّان، فقد روي عن الكاهنين: شقّ وسطيح أنهما أخبرا الناس بقرب مجيء النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهما بذلك يؤكدان صدق ما جاء به الرسول الكريم، وما جاء في الكتب السماوية: الإنجيل والتوراة، وهي أمور لم تكن لنبي قبله، في تهيئة الناس لاستقبال رسالته، قال لسان الدين بن الخطيب:
وأخبر شقٌّ أن في الأرض عندهـــا
رسول من الرحمن يدعو إلى الهدى
طلوعَ نبيٍّ طاهــر الأبّ والأمِّ
ويدعو إلى دار السلامة والسلم
فقد أراد الشعراء من ذكر تلك الإشارات في شعرهم، والتنوّع في مدلولاتها تأكيد نبوّة الرسول -عليه السلام-، وزيادة مشروعية قصيدتهم الدينية والفنية معاً.
المديح النبوي:
يأخذ هذا الجزء من القصيدة المولدية مساحة نصيّة واسعة، يكاد يكون أكبر مساحة فيها، حيث يشكل المديح النبوي العنصر الرئيس في شعر المولديات، وهو العنصر الذي تتمحور حوله الأفكار والمضامين الأخرى، فقد أُوتي الرسول الكريم من المناقب والفضائل ما لم يكن لغيره من الخلق بمن فيهم الأنبياء والرسل -عليهم السلام-، كما بدا بصورة تتمثل فيها طبيعة بشرية، وسمات ملحمية.
ويعدُّ المديح النبوي من أرفع الموضوعات الإنسانية ذات الاتصال المكين في النفس البشرية، فكان الشعراء يعبّرون في مولدياتهم عن حبّهم وهيامهم في شخص الرسول الكريم، وبذلوا غاية جهدهم في سبيل إظهار هذا الحبِّ، الذي يعدّ سمة عامة يشترك فيها المسلمون على تباين نزعاتهم، وتعدّد مذاهبهم، ففي "مولد النبي ترى المجددين والمقلدين، والصوفية والسلفية والعلماء والعامة، يلتقون جميعاً على بقعة واحدة، وقد يكون بين نزعاتهم تنوّع واسع متباين، ولكنهم جميعاً وحدة متآلفة في إخلاصهم وحبهم لمحمد" -عليه الصلاة والسلام-، وقد جعل الشعراء للرسول مكانة فريدة، ومنزلة رفيعة بين سائر الخلق؛ وبذلك فإن جمال القصيدة المولدية يتجلّى في القيم السامية التي يعبّر عنها، فضلاً عن الإبداع الفني في بنية القصيدة نفسها.
وقد استقرت معاني المديح النبوي في شعر المولديات، وترسّخت لدى المجيدين من شعرائه، بحيث نجدهم يتحدثون عن المعجزات النبوية بكل أشكالها، والحقيقة المحمدية، وشفاعة الرسول يوم القيامة، وشمائله، وصفاته المعنوية، ومنزلته بين الأنبياء، فقد بدت شخصية الرسول في صورة رجل دنيا ودين، إلا أننا نقف عند ملمح في شعر المولديات وهو أن الشعراء قد أغفلوا الحديث عن الهجرة النبوية، مع أن ذكرها يتيح الفرصة للإشادة بموقف علي بن أبي طالب الذي نام في فراش الرسول الكريم ليلة الهجرة، وموقف أبي بكر الصديق رفيقه في الهجرة، وموقف الأنصار الذين استقبلوا النبي ونصروه، وهم قوم بني الأحمر -سلاطين الأندلس آنذاك- الذين ينتسبون إليهم.
وتغنّى الشعراء بمولد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلّم-، وجعلوه نقطة تحوّل في تاريخ البشرية، ونوراً صدع شمل الظلام البهيم، وأخرج الناس من الشرك إلى الإيمان، ومن عبادة العباد (الروم والفرس) والخوف منهم إلى عبادة ربّ العباد، والأمن في جنابه، قال علي بن لسان الدين:
لله مولده الذي أنواره
شرعتْ من التأييد سيفَ هداية
صدعت ظلاماً للضلال بهيما
أرْدَتْ ظُباه فارساً والرومـا
وعبّروا عن مدى عجز أداتهم الفنية عن الوصول إلى مستوى ما ينبغي أن يُمدح الرسول به، مقايسة مع ما أنزل الله تعالى من مديح لنبيه، قال ابن خلدون:
قصّرتُ في مدحي فإن يكُ طيبــاً
ماذا عسى يبغي المطيل وقد حوى
فبما لذكرك من أريج الطيب
في مدحك القرآنُ كلَّ مُطيب
وقال إسماعيل بن الأحمر:
بمدحك يا خير الورى الوحيُ قد أتى
إذا نطقَ القرآنُ منك بمدحةٍ
فأشجار ذاك المدح تُجنى ثمارهــا
فأمداحنا بالعجز سيقَ اضطرارها
ولمّا أدرك الشعراء مدى عجزهم في مدح الرسول الكريم، اكتفى بعضهم بالإشارة إلى الصلاة عليه، قال أبو زكريّا ابن خلدون:
يا رواة القريض والشعر عجزَاً
إنما حسبنا الصلاة عليـه
ما عسى تدركون بالأمداحِ
وهي للفوز آية استفتاحِ
فإن ابن خلدون طلب من مجموعة الشعراء ورواة الشعر أن يتوقفوا عن محاولة الاستمرار في المديح النبوي لأنهم لن يصلوا إلى ما يبتغون من معاني المديح التي تظلُّ عصية على قدرتهم الشعرية، وأنَّ خير ما يمكن أن يكون ربحاً لهم هو الصلاة على نبيهم الكريم.
وقد تفاوتت معاني المديح النبوي كثرة وتفصيلاً في شعر المولديات، وإن لم تخلُ منها قصيدة من هذا الشعر؛ إذ هي الغاية التي سعى الشعراء للتعبير عنها، والوقوف عليها، ولأن الأندلسيين كانوا يعيشون أزمة وجودية، فقد استدعت هذه الأزمة تداخل المرجعيات الثقافية والدينية والشعبية لرسم الصورة المثلى للرسول الكريم، فأحاط الشعراء شخصيته بهالة عظيمة، واستقصوا جوانبها استقصاءً تاماً، وبالغوا في ذلك أيما مبالغة، تخليداً لها؛ فهم يعدون ذلك مظهراً من مظاهر الوفاء لشخصه الكريم، وإيماناً برسالته السماوية السمحة. وقد نهلوا لتخليد هذه الشخصية من منهل واحد تعددت مسالكه، فمنها ما هو مستوحى مما ورد في القرآن الكريم، فهو الينبوع الصافي الذي صدر عنه الشعراء، و شكّل سجلاً فذّاً ومنبعاً حسناً لهم؛ فقد كان له أثر وثيق في ترسيخ صورة الرسول الكريم في ذهن المسلم، ظلت تتردد مع تعاقب الأجيال، قال تعالى: )وإنك لعلى خلق عظيم(، ومنها ما هو مستوحى من السيرة النبوية العطرة، فقد جسّد الرسول الكريم في سيرته أبلغ المثل العليا وأروعها، ومنها مما ورد في معتقدات تسرّبت إلى الدعوة الإسلامية من خلال الفرق الإسلامية المختلفة، لا سيما المعتقدات الفاطمية التي ظلّ أثرها واضحاً بنسب متفاوتة عند المسلمين، ومنها ما كان من الإضافات الشعبية التي نَسَبت للرسول الكريم الخوارق والمعجزات التي جعلت منه بطلاً شعبياً وملحمياً برؤيتهم؛ لفرط محبتهم، وشدّة تمسكهم بنهجه، وارتباطهم بعقيدته.
السمات المثالية للشخصية العربية في شخص الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
وقف الشعراء إزاء صفات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسجاياه، وقفة عجزوا عن إدراك ماهيتها، وعبروا عن عدم قدرتهم على الوقوف على مكنونها، قال عزيز بن يشت:
يا سائلي عن كنه بعض صفاته
كلَّ البيانُ وكلَّ عنه المنطقُ
وقد فضّل الشعراء الرسول الكريم على غيره من الأنبياء وسائر الخلق، بيد أنهم اقتصدوا في ذكر صفاته الحسية والجسدية، ولم يتوقفوا طويلاً عند هذه الصفات، وركّزوا على أوصافه المعنوية، وتغنوا بها بما يوحي بأنه ضرب من الغزل في ذاته عليه الصلاة والسلام، وما هي في حقيقتها إلا تعظيم للرسول، وتوقير له، وإجلال لشخصه الكريم، قال ابن زرقالة:
وقد فضّل الشعراء الرسول الكريم على غيره من الأنبياء وسائر الخلق، بيد أنهم اقتصدوا في ذكر صفاته الحسية والجسدية، ولم يتوقفوا طويلاً عند هذه الصفات، وركّزوا على أوصافه المعنوية، وتغنوا بها بما يوحي بأنه ضرب من الغزل في ذاته عليه الصلاة والسلام، وما هي في حقيقتها إلا تعظيم للرسول، وتوقير له، وإجلال لشخصه الكريم، قال ابن زرقالة:
هو سيّد الأرسال أكرم مُرسـل
أعلى الورى قدراً وأطولهم يداً
ما شئت من شرف أصيل لم يزل
فرعٌ زكا في دوحة الحسب التي
أضحى به شمل الهدى مشمولا
وندىً وأشرفهم وأقوم قيــلا
طول الزمان ولا يزال أصيــلا
ما زال روضُ علائها مطـلولا
وقال ابن الخطيب في الصدق والحلم:
رسولٌ أتى حكم الكتاب بمدحـه
قريعُ صميم المجد في آل هاشم
وأثنى عليه الله بالصدق والحِلــمِ
أولي القَسَمَاتِ الغرِّ والأُنُف الشمِّ
والناظر إلى الأبيات السابقة يدرك أن الشعراء استدعوا القيم الأخلاقية التي ترسخت في الذاكرة العربية، مثل عراقة النسب وأصالته، والكرم والسخاء والشجاعة والصدق والحلم، وغيرها من القيم التي سادت عند العرب؛ عرْفاً وعنوان فتوّة، ثمّ تبناها الإسلام بعد بزوغ نوره، ومنحها زخماً روحياً، فحوّل الالتزام بها من العرف الاجتماعي الخالص إلى الإطار العقدي الخالد، وهو بذلك لا يبتعد عن غيره من البشر إلا بقدر ما يستغرق الشعراء في هذه القيم.
السمات التي انفرد بها الرسول -صلى الله عليه وسلّم-:
إنّ أهمَّ ما يمكن أن يستخلص من سمات انفرد بها الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم – هو الحديث عن الحقيقة المحمّدية، والمعجزات النبوية والإسراء والمعراج، والتوسّل والشفاعة:
أ- الحقيقة المحمدية:
تعدُّ الحقيقة المحمدية ركناً رئيساً من أركان بنية القصيدة المولدية، وعنصراً مهماً من عناصر المديح النبوي، فقد تفاعل الشعراء مع هذه الحقيقة، وانجذبوا إلى المعنى الذي لمحوه فيها، واستوحوا منه كثيراً من الرمزية، فقد نظروا للنبي نظرة مقدّسة، وجعلوه نوراً من الله عزّ وجل، ومخلوقاً قبل بدء الخلق، ومن مادة مختلفة عن مادة خلق البشر، فهو أزلي الروح والوجود؛ إيماناً راسخاً في عقيدتهم، دون أن تكون أثراً من أحد، أو تقليداً لدين، أو اتباعاً لمعتقد آخر، ودون أن تفرضها مؤثرات أجنبية طارئة عليها؛ إذْ "إن الحقيقة المحمدية إسلامية في نشأتها الأولى، وبصورتها النصيّة". ويبدو أن الفاطميين قد جعلوا ذلك ركناً من عقيدتهم، واتخذها شعراؤهم عنصراً من عناصر شعرهم العقدي، كما أن الحقيقة المحمدية من مرتكزات الفكر الصوفي الرئيسة، بل هي الأساس الذي يقوم عليه ذلك الفكر في مختلف مشاربه واتجاهاته، وانعكس ذلك على الشعر الصوفي، وتأثر بذلك شعراء المديح النبوي من بعدهم.
يا سيّد الأرسال جئتك قاصــــــــداً
أنت الذي لولاك ما خُلق امــــــرؤٌ
أنت الذي من نور ك البدر اكتسى
أرجو رضاك وأحتمي بحماكا
كلا ولا خُلق الورى لولاكـــــا
والشمس مشرقة بنور بهاكــا
ولعلّ السبب في التركيز على الحقيقة المحمدية في قصيدة المولد النبوي، يأتي من باب استعلاء المسلمين بها وبمعجزاتها على أصحاب الديانات الأخرى، للتعبير عن أن محمداً هو الأصل الذي ينتسب إليه الكون، وأن كلّ ما في هذا الكون من مظاهر بشرية وطبيعية مستمدّ من النور المحمدي، وهو ما يبين طبيعة الرد على احتفالات النصارى بمولد عيسى -عليه السلام- آنذاك الذي شكّل أحد دوافع الاحتفال بالمولد النبوي، قال ابن زمرك:
تنقّل نوراً في الحياة مشاهــداً
إلى أن بدا سراً من الله ظاهراً
يفوق بهاء أو يروق ترسُّمـــا
تجسّد من نور الهدى وتجسّما
ومن ذلك يتبين أن هناك اتجاهاً سائداً بين علماء المسلمين يؤمن بقضية التجسيد، أي أن محمداً صورة مجسّدة للذات الإلهية، وفي ذلك تنزيه للرسول الكريم عن أن يتصف بما يتصف به البشر، وإنما هو صورة من الذات المقدّسة، تأويلاً لما ورد في القرآن الكريم عندما وصف الله تعالى ذاته بقـوله: )الله نور السموات والأرض ....... الآية (.
وقال ابن خلدون:
نور الهدى مصطفى الأكوان غايتها
المُجتبى لهُدى الأنام قدْمــا
حُكْم الرسالة في بعْثٍ وتكوين ِ
وآدمٌ بين هذا الماء والطيـنِ
وهو بذلك يشير إلى أن الله اصطفى محمداً (r) لحمل رسالته قبل بدء نشأة الكون، وخلق أبي البشر آدم، وأن الأفلاك تستمدُّ نورها من نوره -عليه السلام، فهذا "النور هو حقيقة الرسالة، وسرّ القرآن، والرحمة المنزلة، وهو العناية في الدنيا، وسرّ الإيجاد، ومقتضى الإرادة العلية، ومعنى الكون، ومميز الشهادة من الغيب".
ومهما يكن من أمر فإن الشعراء نظروا إلى شخصية الرسول الكريم من حيث الحقيقة الروحية على أنه قديم أزلي، وهو حيّ لا يفنى ولا يموت، وهو جزء من الذات القدس، بيد أنهم نظروا إليه من حيث التشخيص الجسماني على أنه حادث يمكن أن يموت، كما سيتبين فيما بعد في هذا البحث.
ب- المعجزات:
ركّز الشعراء في مولدياتهم على معجزات الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وجعلوها عنصراً رئيساً من عناصر المديح النبوي، على الرغم من تنوعها، واختلاف دلالاتها، وكثرتها، مثل تكليم الضبّ وشكوى البعير له...وغير ذلك، وإن لم يكن بمقدورهم الإحاطة بها، قال أبو عبدالله بن حسان:
له معجزاتٌ دونها الشهبُ كثرةً
يضيقُ نطاقُ القول عن أن يشيعها
وقال ابن زمرك:
كم آيةٍ لرسول الله معجـــزةٍ
الله أعطاك ما لم يُؤْتَهُ أحدٌ
تكلُّ عن منتهاها ألسن الفُصحـا
والله أكرم مَنْ أعطى ومَنْ منحا
فقد أحسن الشاعران في اختيار الألفاظ الدالّة على الكثرة؛ إذْ إنَّ دلالة الكثرة في معجزات الرسول الكريم تأتي من أمرين في المثالين السابقين، أولهما من حيث المضمون الذي أشار فيه الشاعر إلى الشهب التي يُكنّى بها عن الكثرة، ونطاق القول الذي يُكنّى به عن السَّعَة التي لا حدودَ لها ـ وثانيهما في استعمال (كم) الخبرية، التي تدلُّ على عددٍ غير معلوم أو محدود، وكلّل ألسن الفصحاء في استيفاء ذكرها.
وقد نوّه الشعراء بمنزلة الرسول الكريم، ومكانته بين الناس، وهو معنى تكرَّر كثيراً في شعرهم، فهناك من الشعراء مَنْ قارن بين معجزات الرسول الكريم ومعجزات الرسل الذين سبقوه مثل عصا موسى -عليه السلام-، وإحياء الموتى معجزة عيسى -عليه السلام-، مثل قـول إسمـاعيل بـن الأحمر:
إذا الرسل بالإفصاح طال مقامهــم
وإن أظهروا بالمعجزات عجائبـــاً
إذا ما عصا موسى أُعيدت يقودها
ففي الماء لمّا من أصابعه انهمـى
وإن ميّتٌ أحياه عيسى فأحمـدٌ
يطول رسول الله، وهو خطيبها
فقد ريئ بالمختار منها عجيبها
له حيّة تسعى وخيف مصيبهـا
لَمعجزةٌ، ما في البرايا ضريبها
به حَييَ الأمواتُ إذ خرّ نيبهــــا
ومن المعجزات التي تردّدت في شعرهم، معجزة الضب الذي كلم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وشكوى البعير، قال ابن زرقالة:
والضبُّ سلم معرباً بلسانه
وكذا البعير شكا إليه بحاله
وأشار نحو يمينه تقبيـــلا
مستعطفاً وأتى إليه دخيلا
وهكذا نستطيع أن نتلمّس أمثلة كثيرة على هذه المعجزات مبثوثة في قصائد الشعراء، وهي أمثلة لا تسترعي الانتباه الفني كثيراً، وربما كان التكرار أكثر مظاهرها، حتى أصبح الشعراء يلهجون بتكرار معانيها وإعادتها، وظلّت مكرورة في مضمونها، تقليدية في بعض جزئياتها، وظلّ التجديد – غالباً – في طرائق التعبير عن هذه المعاني، والأساليب التي اختارها الشعراء لبيانها، بيد أنها ظلّت تشكّل مادة شعرية في قصيدة المولد النبوي، بوصفها مظهراً من مظاهر الإعجاز النبوي التي أحاطت بولادة الرسول الكريم، وبسيرته النبوية، وإلا لما كان لهذه المعجزات من دلالة.
ج - الإسراء والمعراج:
لعلّ السبب في ذكر الشعراء حادثتي الإسراء والمعراج في مولدياتهم، يعود إلى أنهم رأوا فيهما كرامة من الله عز وجل، خصّ بهما رسوله محمداً دون غيره من الأنبياء والبشر.
وتعدُّ حادثتا الإسراء والمعراج أهم المعجزات النبوية – بعد القرآن الكريم، ومن أهم الأمور الخارقة التي أجراها الله تعالى على يد نبيه، وقد قال ابن الهيتمي في شرحه همزية البوصيري: "إن قصة الإسراء والمعراج من أشهر المعجزات والبينات، وأقوى الحجج، وأصدق الأنباء، وأعظم الآيات، ومن ثم قال بعض المفسرين: إنها أفضل من ليلة القدر، لكن بالنسبة له صلى الله عليه وسلّم؛ لأنه أُوتي فيها ما لا يحيط به حدّ "وقد وقف الناس حيالها بين مصدّق ومشكّك وحائر، ووقف العلماء وقفة جدل؛ هل كانت بالجسد أم بالروح أم بكليهما، بيد أن شعراء المولديات اكتفوا بالحديث عن هذه الحادثة دون الخوض فيما خاض به العلماء من حيث كيفية الإسراء، واكتفوا بذكر ركوب الرسول -صلى الله عليه وسلّم- البراق، ومرافقته جبريل -عليه السلام- إلى السماوات العلى، قال ابن خاتمة الأنصاري:
يا خير مبعوث لخيرة أمّـة
ومَن ارتقى متن البراق إلى العلى
بتلاوة فيها هدىً وشفـــاءُ
تُطوى سماءٌ دونه وسماءُ
وقال ابن زرقالة:
وسرى إلى السبع السموات العُلى
فوق البراق مرافقاً جبريلا
ومنهم مَنْ أشار إلى وقت الحادثة، مثلما قال أبو عبدالله بن سودة:
أسرى بك الرحمن في ملكوتـه
في حيثُ لا فَلَكٌ ولا ملـــكٌ ولا
ورعيتَ من مكنون سرِّ الله ما
والليل سترٌ ظلُّهُ مســـدولُ
بشرٌ يُباح له هناك وصولُ
لم يؤتَ جبريل وميكائيــلُ
إلا أننا نستطيع أن نؤشر إلى مسألة بدت في شعر مالك بن المرحل، حيث أشار إلى أن حادثة الإسراء كانت بالروح والجسد معاً، ولعل مالك بن المرحل يمثل اتجاهاً سائداً آنذاك يؤمن بأن هذه الحادثة كانت بالروح والجسد، حيث قال في قصيدته المسماة (السِّيَر في معراج سيد البشر):
وإسراء روح وجسم معاً
إلى حضرة القدس ذات الأزلِ
وفي الحديث عن هذه الحادثة لم يبالغ الشعراء في وصفها وتأويلها، أو الإطالة بذكرها، وبسط القول في تفصيلاتها، ووقفوا عند حدِّ ما جاء في القرآن الكريم بما يخص هذه الحادثة، لا سيما ما جاء في سورتي الإسراء والنجم، حيث استمدوا منهما بعض معانيهما وألفاظهما، على نحو ما ورد في قول ابن الخطيب:
سرى وجُنح ظلام الليل منســــدلٌ
يسمو لكلِّ سماءٍ منه منفـردٌ
لمنتهىً وقفَ الروحُ الأمينُ بـه
لقاب قوسين أو أدنى فما علمتْ
أراه أسرار ما قد كان أودعـه
وآب والبدر في بحر الدّجى غرقٌ
والنجم لا يهتدي في الأفق ساربه
عن الأنام وجبرائيل صاحبـه
وامتاز قرباً فلا خَلقٌ يقاربـه
نفسٌ بمقدار ما أولاه واهبـه
في الخلق والأمر باديه وغائبــه
والصبح لمّا يؤبْ للشرق آيبـه
فقد أشار في البيت الأوّل إلى قوله تعالى في سورة الإسراء: )سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [، ثم أشار إلى قوله تعالى في سورة النجم: )ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى* فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى* مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى* أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى* وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى* عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى* عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى* لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى[، إلا أنه لم يتجاوز ذلك إلى تأويلٍ أو إلى شرحٍ وتوضيح؛ ويبدو أن الشاعر أراد أن يعطي مصداقية لمعانيه، وشرعية دينية لقصيدته.
والمعنى نفسه أشار إليه أبو زكريا بن خلدون في إحدى مولدياته، إلاّ أنه مرّ على هذه الحادثة مروراً سريعاً ولم يبسط القول في ذلك، قال:
مَنْ رقى في السماء سبعاً طباقاً
ودنا منه قاب قوسين قربــاً
ورأى آي ربّه في اتِّضـــاحِ
ظافراً في العُلا بكلّ اقتراح
فإنه أشار إلى عروج الرسول الكريم إلى السماوات السبع، ورأى آية ربه بكل جلاء ووضوح، وهي كرامة خصّ الله بها نبيّه.
والناظر إلى الأمثلة السابقة يدرك مدى إفادة الشعراء من النص القرآني، وقدرتهم على توظيفه في النص، واستيعابه في التشكيل الفني من خلال الصيغة المحكمة والإيقاع، ضمن مرتكزات التناصّ التي تجعل من النص الغائب والنص الحاضر وحدة فكرية واحدة.
د - الشفاعة والتوسّل:
أخذ شعراء المولديات كغيرهم من الشعراء بجواز التوسل بالرسول الكريم، معتبرين الرسول الكريم هو القوّة المخلّصة، وهي صورة رسمتها مخيّلة الشعراء ومخيلة الوعي الجماعي، حيث رسمته بصورة البطل الملحمي ممثّل الكمال والقداسة، فهو واسطة بينهم وبين الله تعالى؛ لذلك حظي التوسل بالرسول الكريم بحضور واضح في القصيدة المولدية، وحافظ الشعراء على ظهوره في شعرهم، وألحوا عليه، فلا تخلو قصيدة من مساحة نصية لهذا العنصر، قلّت أو كثرت.
لقد توسل الشعراء إلى النبي وتشفّعوا به وهم مطمئنو النفس إليه، وغايتهم من هذه الشفاعة أن تكون مصدر عون لهم، عندما تضيق بالناس السُّبل من أهوال يوم القيامة، وجعلوا مدح الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيلة للتقرّب من الله عزّ وجلّ، وتوسّلاً لرفع المعاناة، وصرفاً للبلوى، وتكفيراً للذنوب ومحواً للأخطاء، واستغفاراً لما بدر من هفوات، وطمعاً في الجنة؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند الله عز وجل شفيعهم يوم القيامة، وقد ذكر القاضي عياض حديثاً عن الرسول الكريم قال فيه: "لو خُيُّرتُ بين أن يدخل نصف أمّتي في الجنّة وبين الشفاعة، لأحببت الشفاعة التي ترونها للمتقين، وأراها للمذنبين الخطائين".
ويعدُّ عنصر الشفاعة والتوسّل من أدقّ المواضيع التي نضع أيدينا فيها على نزعة الشاعر الدينية؛ لأنه يمثل قمة التعبير عن قرب العبد الورع من ربه، يؤيد ذلك خلوّ الدعاء من مطلب دنيوي، كسعة الرزق ورغد العيش، وما يمكن أن يدخل في مدار زخرف الدنيا وزينتها.
ويتسم عنصر التشفّع والتوسل بنغمة حزينة، وبالأسى في وسيلة التعبير عنه، وغالباً ما يستدعي الاستعطافَ والتفاعلَ مع الشاعر، ومعاناته الذاتية مع ما يعانيه المجتمع هناك من ضيق وشدّة، وما يسيطر عليه من قلق وخوف شديدين من غدٍ مجهول، ومصير سيّء، ولذلك اتجه الشعراء بشفاعتهم للرسول الكريم وتوسلهم إليه في اتجاهين: الأول، الشفاعة الذاتية المفردة، والثاني، الذاتية الجماعية التي تتسع لتشمل المسلمين في وطنهم؛ إذ إنه من المألوف أن المسلمين كلما حلّت بهم مصيبة، واضطربت أحوالهم كانت حاجتهم إلى العودة إلى دينهم ومعتقدهم أكثر إلحاحاً من أي وقت. وفي ذلك قال ابن خاتمة الأنصاري:
قومٌ من أمّتك انتأوا داراً فهـــم
من دونهم بحر تأجّج ماؤه
يتوسّلون بجاهك الأسنى عسى
في أمْنِ روْعهم وكبْت عدوّهم
بجزيرة بين العدى غربـــاءُ
ناراً وخلف ظهورهم أعداءُ
ألا يخيبَ لهم لديك رجــــاءُ
فقد استطال وطالَ منه عداءُ
ففي هذه الأبيات ابتعد الشاعر تماماً عن ذاته وهموم نفسه، وقدّم صورته بوصفها تحمل هموم الجماعة من المسلمين، والابتعاد عن أنانية الذات، والسمو بها إلى ما هو أعمّ وأشمل، وهو التوسّل لنصرة المسلمين في الأندلس الذين وصفهم بالغرباء، يعانون من خطرين: البحر والأعداء. وهذا إدراك من الشعراء بأن المسلمين هناك غرباء في وطنهم، ينظرون إلى مَن يقيل عثرتهم ويصرف البلوى عنهم.
ويكون دعاء الشعراء وتوسّلهم بأسمى ما يدعو به المؤمن التقي، فهو وسيلتهم إلى غفران الخطايا والذنوب ودخول الجنة، فصاحب الذكرى أحنُّ على الشاعر من أمه وأشفق على حاله منها، قال عزيز بن يشت:
يا سيّد الأرسال غير مدافـــــع
بالفقر جئتك موئلي لا بالغنــى
فاجبرْ كسيرَ جرائر وجرائـــمٍ
أرجوك يا غيثَ الأنام فلا تدعْ
حاشاك تطردُ مَنْ أتاك مؤمِّــلاً
وأجلّهم سبقاً وإنْ هم أعتـقُ
فالبذل والإنفاق عندك ينفــقُ
فالقلبُ من عِظَمِ الخطايا يقلــقُ
باب الرضا دوني يُسدُّ ويُغلَقُ
فَلأنتَ من أمي أحنُّ وأرفــــقُ
فقد صوّر الشاعر نفسه بأنه غارق في الذنوب والخطايا، إلا أن أمله موجودٌ في استجابة الرسول الكريم في جبر حاله، والتخلص من هواجس الخوف فيما فرّط من أعمال، فهو الذي يقدّم لهم طمأنينة نفسية، وغذاءً روحياً.
وعبّر الشعراء في معرض توسّلهم عن منزلة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند الله -عز وجل- مما يؤهله أن يكون هو المشفّع لطالب الشفاعة الذي لا يتشيّع للرسول -صلى الله عليه وسلم- فحسب فتشيعه لآله أيضاً، وهو أهم وسائله لطلب الشفاعة؛ لذلك فهو يعتقد بأنه حقيقٌ بها وأهلٌ لها، قال ابن قطبة الدوسي:
يا سيّد الثقلين ما لي مطمـعٌ
واسأل إلهك لي بحقك رحمـة
حاشا وكلا أن تضيع وسائلي
في غير فضلك فلتصدّق في مطمعي
واشفع تشفّع يا أجلَّ مشفــعِ
ويضيع في آل الرسول تشيّعي
ونشد الشعراء في مولدياتهم الاستجارة بالرسول الكريم من العذاب، ذخيرتهم في ذلك الحبّ الصادق للرسول الكريم الذي لا يُخشى معه الذهول من أهوال يوم الحساب، وإخلاص الولاء له، والعمل بسنته، ومديحه بما يليق بمقامه، قال ابن زرقالة مخاطباً الرسول الكريم:
بك أستجيرُ من العذاب فلم أكن
أنت المشفع في الورى ولعلنــي
أخشى بحبّك في الحساب ذهولا
ألقى بحبي فيك منك قبــولا
ونجد في الأمثلة الشعرية الكثيرة أن ثمة نغمة حزينة من لوعة دفينة آسرة، حرص الشعراء على إبرازها، بوصفها عنصراً رئيساً من عناصر التأثير في المتلقي؛ إذْ نجد الشاعر قد جعل بعض الأبيات تمهيداً ساعد على تعميق المفارقة المتمثلة في تحويل الخطاب من الحديث عن المأساة والمعاناة، إلى الحديث عن الأمل والتفاؤل المتمثل بشفاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد دعم ذلك على المستوى البلاغي من خلال أسلوب الالتفات في تحويل الخطاب من الحديث مع الذات إلى الحديث مع الآخر، مما يشكل انتقالاً من النجوى إلى المناجاة.
المكان في القصيدة المولدية:
اعتاد شعراء المولديات الإكثار من ذكر الديار الحجازية والديار التي تقع في طريق الحج، والتشوّق إليها على تباين أماكنها من حيث قربها أو بعدها عن الأماكن المقدسة التي تؤدّى فيها الشعائر الدينية، فهي تأتي على شكل رمزي للتعبير عن شوق الشاعر وحبّه إلى رؤية الأماكن المقدسة وزيارتها؛ لما لها من منزلة في نفس الشاعر، فيذكر نجداً وسلعاً ورامة والخيف والعقيق وغيرها، ويذكر البروق والنسمات التي تهبّ وتُقبل من تلك الجهات، ويدعو لها بالسّقيا؛ لتبقى عامرة آهلة "وقد يكون مردّ ذلك إلى أن هذه الأماكن أصبحت تقدّم للشعراء غذاء روحياً، حيث قضى الرسول -عليه السلام- حياته بين أنحائها"، فالعلاقة الوجدانية والعقدية بين الشعراء وتلك الأماكن جعلت منها ملاذاً يشعرهم بالأمن والأمان، حتى أصبحت تقع ضمن الأنساق الثقافية في حياة الأندلسيين، حيث تتجلى فيها معاني القداسة والسموّ؛ لارتباطها بالدعوة الإسلامية، وما شهدته تلك الأماكن من تحولات في حياة البشرية، وما خصّها الله عزّ وجل به، وجعل زيارتها واجبة في كل أوقات السنة، وأهمها أداء فريضة الحج، بوصفها ركناً أصيلاً من أركان الإسلام الخمسة.
ويتضح للباحث من خلال دراسة الأماكن التي تردّد ذكرها في القصيدة المولدية، أنها ليست عبئاً على النص الشعري، بل إنها تمثّل نواة دلالية وفنية، حرص الشعراء على إيرادها فيه؛ انطلاقاً من أن الأشياء كافة تصلح للاستخدام بوصفها مجازاً "إذ أصبحت مألوفة بصورة كافية، واتخذت لها جذوراً في الوعي الجمعي".
وكثيراً ما يصبو الشعراء إلى الديار الحجازية؛ شوقاً ولهفة، دون أن نجد تفصيلاً في الحديث عن المكان الحقيقي؛ لعدم واقعيتها في حياتهم الجغرافية، فهم لا ينظرون إلى المكان بوصفه مكاناً جغرافياً، وإنما ينظرون إليه بوصفه معرفة وجدانية حدسية، فلا يقف الشعراء عند الأثافي والنؤى وبعر الآرام؛ لأنهم يرون في حسنها جنة الفردوس، وفي نسائها الحور العين، قال ابن خلدون في نجد مع أنها ليست من المناطق المقدّسة، وليست من المناطق الواقعة على طريق الحج للقادمين من الأندلس والمغرب:
يا أهل نجد وما نجد وساكنهــا
أصبو إلى البرق من تلقاء أرضكمُ
حسناً سوى جنة الفردوس والعِينِ
شوقاً، ولولاكمُ ما كان يصبينــي
فيكفي ابن خلدون أن يرى برقاً قد لاح من تلك الجهات، حتى يبدو صبّاً هائماً على غير عادته في غزله وغرامياته، على الرغم من أنه لم يكن مولوداً في تلك الأماكن.
وقد رأى الشعراء البكاء عند الأماكن المقدسة والسلام عليها، ولثمها وتقبيلها؛ تقرّباً لله تعالى، وغفراناً للذنب، وعفواً عن الأوزار، ومنجاة لهم يوم القيامة، قال ابن الخطيب:
كأنّي بقومي حين حلّوا خلالهـا
يكبّونَ للأذقان في عَرَصاتهـا
فيُعفى ع نالأوزار في ذلك الحمى
وأعينهم إذ ذاك أعينهم تهـمي
سلاماً وتقبيلاً على ذلك الرسم ِ
وتُغتفرُ الآثامُ في ذلك اللثـــــمِ
ويبدو من ذلك أن التغني بهذه الديار شأنه شأن الشعر الديني بعامة "تعبير عن تلك الشحنات العاطفية التي تعتلج في الوجدان الديني للإنسان، وتخفيف عن ذلك التلوّم النفسي، وترويح للكبت الشعوري الكامن في أعماق الذات"؛ لما تتميز به تلك الأماكن من قدسية استمدتها من الرسول الكريم، قال ابن زمرك الغرناطي:
سقاها الحيا من أربع ومعاهــدٍ
بطيب رسول الله طابت ربوعها
فلله ما أذكى وأزكى وأكرمــا
فسلْ إن أردتَ الركب عمّا تنسّما
وقال ابن الخطيب:
معاهدٌ شرُفتْ بالمصطفى فلها
من فضله شرَفٌ تعلو مراتبه
وبذلك اكتسبت هذه الأماكن قيماً سامية، حرص الشعراء على إظهارها، وجعلوها عنصراً مهماً من عناصر القصيدة المولدية.
ومن الأماكن التي وقف الشعراء عندها، قبر الرسول الكريم، من خلال كثرة ذكره والشوق إليه، وقد ورد في شعرهم بألفاظ مختلفة مثل: القبر والضريح، والتربة، والمثوى، وقد يجمع بعض الشعراء بين هذه الأسماء في قصيدة واحدة، قال ابن زمرك:
يا ليت شعري هل أُرى أطوي إلى
فتطيب في تلك الربوع مدائحي
حيث الضريح ضريح أكرم مرسل
قبر الرسول صحائف البيداء
ويطول في ذاك المقام ثوائي
فخر الوجود وشافع الشفعاء
كما أفاض الشعراء بمعنى الأمل والرجاء في زيارة الضريح الشريف إفاضةً تُعدُّ صورة من الصور التي عبّروا بها عن تعلقهم بالرسول الكريم، وبدعوته التي أرسل بها، إذ "ليس تفخيم القبر وتلذذ التعبّق بترابه، والالتصاق بحجارته إلا تعبيراً عن تقديس صاحب القبر وإكباراً له، وتفخيماً لمبادئه وأفكاره"، وقد حرص الشعراء على التعبير عن رغبتهم في زيارة تلك الأماكن والتعفّر بثراها؛ فتزدحم مشاعرهم وتصبح أكثر تدفّقاً، وبذلك فإن المتلقي يستشعر الضيق الذي يستشعره الشعراء، والألم الذي يعاودهم، قال ابن زمرك:
كم ذا التعلل والأيام تمطلنـي
ما أقدر الله أن يدني على شحط
كأنها لم تجد عن ذاك منتدحـــا
وأن يقرب بعد البين من نزحا
وقد أفاد ابن زمرك من قول الشاعر حندج بن المري حيث قال:
ما أقدر الله أن يدني على شحط
مَنْ دارُه الحَزْنُ ممّنْ دارُه صولُ
وقال لسان الدين بن الخطيب:
ألا ليت شعري هل أراني ناهـداً
إلى أن أحطَّ الرحلَ في تربك الذي
وأُطفئ في تلك الموارد غلتــي
أقود القلاصَ البُدْنَ والضامرَ النهدا
تضوّع نداً ما رأيتُ له نِــدّا
وأُحسب قرباً مهجة شكت البُعــدا
وقد بلغ من تعلق الشعراء بقبر النبي أن عدّه بعضهم غاية مقصده، وأعظم ما يشتهي أن يفوز بالوصول إليه، قال ابن زمرك:
يا هلْ تبلغُنيْ مثواه ناجيـةٌ
حيث الضريح بما قد ضم من كرم
تطوي بي القفرَ مهما امتدّ وانفسحا
قد بذّ في الفخر مَن ساد ومَن نجحا
ومنهم من جعل غاية مناه أن يرى هذا القبر ويلثمه ويقبّله، وأن يعفّر وجهه بترابه، ويموت عنده، قال أبو عبدالله بن حسّان:
فيا ليتني أنضي المطيّ ليثرب
أعفّر شيبي بالثرى وهو مِسكةٌ
أشاهد من شمس أنارت طلوعها
وألثم لثمَ المُستهام بقيعهــا
وقد جعل الشعراء زيارة قبر الرسول وسيلة للتخلص من هوى النفس الأمّارة بالسوء حين تنقاد إلى هواها وتمسي وتصبح في الضلال، قال ابن قطبة الدوسي:
تعساً لها خدّاعة أمّــارة
ما بالها رضيت سفاهةَ رأيها
دعني أُعلل بالتصبّر مهجتي
حتى أحثَّ إلى البقيع ركائبي
وأجيلَ في تلك المعالم نظـرة
وأحطَّ رحلي عند قبر محمّـد
قبر إذا لثم العصاة ترابــــــه
بالسوء لا يعدى على عدواهـا
أنّى أطيق لشقوتي بلواهـا
كيما أوافق رأيها وهواهــا
وأبثَّ في عرصاتها شكواهـــا
تجلو عن النفس الغداة صداها
خير البرية كي أقيم صفاهــــا
لثمت شفاه المذنبين ثواهــا
ويبدو أن الإعلاء من شأن قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى حدِّ المبالغة والمغالاة إنما هو من محدثات الخيال الشعبي في هذا العصر، أو أن هناك تياراً اجتماعياً يستحسن هذه المبالغات ويؤمن بها.
وكانت المدينة المنورة أكثر حضوراً من غيرها من الأماكن الأخرى، ويبدو أن ذلك بسبب تشرّفها بضمّ ضريح الرسول الكريم، حيث سعى الشعراء إلى مدحها والتغني بمآثرها، وبما خصّها به الله تعالى بأن جعلها دار هجرة رسوله وأفق مطلعه، إذ يمم شطرها حين ضاقت عليه أخلاق أهل مكّة، وحالت بينه وبين نشر دعوته، قال ابن زمرك:
يا حبّذا بلدة كان النبيُّ بهـــا
يا دار هجرته يا أفق مطلعه
يلقى الملائك فيها أيّةً سرحـــا
لي فيك بدر بغير الفكر ما لمحا
ففي البيت الثاني يخاطب الشاعر المدينة المنورة بصيغة النداء المركّزة؛ إذْ لم يخاطب المدينة بوصفها مكاناً مجرداً أو فضاء مطلقاً، وإنما جاء ذكر المدينة مضافاً إلى الضمير العائد على الرسول الكريم، فاكتسبت بذلك خصوصية المناجاة والاستنطاق؛ "لأن المكان ليس فضاءً سالباً خارجياً تقع فيه الأحداث، ولكنه حامل ماديّ لوعي الشاعر الداخلي".
وفي هذا السياق، نلحظ ظاهرة جديرة بالتسجيل، وهي إرسال القصائد في رسائل؛ لتُقرأ في الروضة الشريفة عند قبر النبي، وقد كثرت الرسائل التي ضمّنها الشعراء قصائدهم للمدينة المنورة وساكنها، والتغنّي بمعالمها، ممزوجة بأمل الزيارة، قال أبو جعفر بن جزي:
يا زائري أرجاء طيبة فزتـــــم
دار النبي ومهبط الوحي الـذي
أملي على طول الزمان حلولُها
ببلوغ آمال ونَيل طِــــــلابِ
يهدي بنورَيْ سنّة وكتــــابِ
فحلولها زلفى وحُسنُ مــآبِ
وحمّل الشعراء الركب المتوجه لأداء فريضة الحج هذه الرسائل، فقد أرسل ابن قطبة الدوسي مع زوار تلك الجهات رسالة يطلب فيها أن يقبّلوا تلك الأماكن، ويبلغوها عنه السلام:
يا راكبَ الوجناء يبغي طيبـة
واقرِ السلام وإن أردتَ مثوبة
تلك المعاهد لا معاهد زينــب
لكن معاهد توبةٍ وتخلــــص
قبّل – فديتك – وَهْدَها ورُباهـا
خذ مهجتي وعساك أن ترضاها
كلا ولا دعد ولا لبناهـــا
من فتنة عمّ الأنام أذاهــا
فهذه رسالة ممزوجة بالألم والشوق والحنين والحب، حيث أشار الشاعر إلى تعلّقه بهذه الديار، وهي دار توبة وغفران، وليست ديار لهو ولعب، كما يبدو من الأبيات السابقة. ونلحظ في البيت الأخير أنّ غاية الشاعر من ذلك تتمثّل في التوبة، وفي تخليص البلاد والعباد من أذى الفتنة، فهي غاية شخصيّة وعامّة في الوقت نفسه.
وقد ساعدتهم في ذلك لغتهم وقدرتهم الفنية للتعبير عن شوقهم وحنينهم، بعد أن ضاقت عليهم حيلهم، وعزّت أسبابهم، قال ابن الخطيب:
نشدتك يا ركبَ الحجاز تضاءلــت
إذا أنت شافهتَ الديارَ بطيبــة
فنُبْ عن بعيد الدار في ذلك الحمى
لك الأرض مهما استعرض السهب وامتدا
وجئتَ بهـا القبرَ المقـدّسَ واللحـدا
وأذرِ به دمعاً، وعفّر به خـدّا
وقال ابن زمرك الغرناطي:
يا راحلين وما تحمّل ركبُهــم
ناشدتكم عهد المودة بيننـا
مهما وصلتم خير مَنْ وطئ الثرى
إلا قلوب العاشقين حمــولا
والعهد فينا لم يزل مسـؤولا
أن توسعوا ذاك الثرى تقبيلا
ونلحظ في هذه الأمثلة الشعرية قناعة الشعراء بالوصول الفني إلى ضريح الرسول الكريم والاكتفاء بتقبيله، بعد أن حالت بينهم وبين زيارته الحوادث؛ ليكون سبباً لقبول الرسول الكريم هذه الوسيلة.
وأشار الشعراء في قصائدهم إلى الأسباب التي حالت بينهم وبين زيارة تلك الأماكن، بما فيها قبر الرسول الكريم، صورة من صور اعتذار الشعراء تقدّم بين يدي الرسول الكريم، فقال أبو الحسن بن حسن:
ولولا عوادي الدهر سرنا لقبره
وخُضنا عُباب البحر شوقاً وأصبحت
وبُدّل بالقرطاس وَخْدُ الركائــبِ
مكان الجواري سابقاتُ النجائبِ
وبهذا الاختيار للمكان - وما يتسم به من جلال ووقار- تأخذ القصيدة المولدية من جهة المضمون شرعيتها الدينية والتاريخية والتراثية، فضلاً عما يمزج فيها من آيات القرآن الكريم التي أشارت إلى قدسية هذه الأماكن.
المديح السياسي:
يبدو أن شعر المولديات – دون غيره من شعر النبويات - خضع لأحكام السياسة، وسارت قصيدة المولد النبوي في ركابها "وازدهار شعر المولديات يرجع إلى تشجيع الحكام على نظمها"؛ لذلك فإن الركيزة الثانية التي تقوم عليها القصيدة المولدية بعد المديح النبوي هي المديح السياسي المتمثل بمدح السلطان الذي أحيا تلك الليلة، فالسلطان الذي احتفى بالمولد النبوي وقام به خير قيام جدير بالمدح "والمديح بهذا لا يبدو خارجاً عن سياق المولدية، ولا غريباً عنها" على الرغم من أننا نلمس نهاية القصيدة بانتهاء المديح النبوي، دون أن تتأثر بنية القصيدة من حيث اكتمال عناصرها.
ويأتي المديح السياسي في القصيدة بعد المديح النبوي مباشرة، وقلّما نجد شاعراً قدّم المديح السياسي على المديح النبوي؛ تعظيماً للمناسبة، وتكريماً للرسول، وتعبيراً عن منزلته في النفوس عند العامة والخاصة.
وقد بالغ الشعراء مبالغة كبيرة في معاني المديح السياسي حتى كادت تقترب من معاني المديح النبوي من حيث كثرتها، والمبالغة في توصيفها، وجعلوا من الممدوح شخصاً آخر ليس من صنف أبناء جنسه ومآثرهم، قال ابن زمرك الغرناطي:
فأمّنت حتى الغصن في نفحة الصّبا
فإن رعشتْ زهرُ النجوم فخيفـةً
وأرهبت حتى النجم في كبد السّما
وإن مال غصن البان شطرك يمّما
فقد بالغ الشاعر في معنى المديح الموجود في هذين البيتين مبالغة تجعل من الممدوح مخلوقاً أسطورياً، فقد بين في الممدوح صفتين متكاملتين بصورة متناقضة ظاهرياً؛ إذْ صوره بما يمتلك من بطش وقوّة ترهب النجوم في السماء، وبما يمتلك من عطف ورأفة ورحمة واهتمام بالرعية وتوفير الأمن لأغصان الشجر.
وقد تنبّه بعض السلاطين لهذه المبالغة، فأشاروا إلى الشعراء بأن يسترسلوا في مديح الرسول -عليه السلام-، ويقتصدوا في مديح السلطان؛ تكريماً لصاحب المناسبة، وتعظيماً لتلك الليلة، فقد أشار محمد الخامس إلى الشعراء بذلك في مولد سنة 768هـ، حيث أورد المقري نقلاً عن ابن الأحمر قصيدة لابن زمرك، وقدّم لها بقوله: "قال [يعني ابن الأحمر]: وأنشد من ذلك في مولد 768هـ، وقد كان مولانا -رضي الله عنه- [محمد الخامس] أبى أن يُرسل العِنان في مدح مقامه، مبالغة في توقير جانب المصطفى – صلى الله عليه وسلّم – وإعظامه؛ فهذا القصد الأدبي الكريم أتى من المدح السلطاني في آخرها الملتمح القريب، واكتفى من القلادة بما أحاط بالترقيب، ومدّ القول في ذكر الرسول وعجائب مجده، حسبما اقتضاه الاختيار من مولانا كافأ الله جميل قصده، آمين".
وقد ركّز الشعراء على معاني المديح القريبة من هوى السلاطين وأذواقهم، لا سيما إبراز تفانيهم في محبة الرسول الكريم والسير على نهجه القويم، فضلاً عن ذكر مآثرهم، والإشادة بمكارمهم، بيد أنّ أغلب هذه المعاني مألوفة في شعر المديح عند العرب؛ من مثل الكرم والشجاعة والسماحة والعفو عند المقدرة، وما إلى ذلك من معانٍ زخرت بها دواوين الشعر العربي، فكثير منها جرى على ألسنة الشعراء في العصور الأدبية كافة على اختلاف بيئاتها إلى يومنا هذا، وهي المعاني المثالية التي يرغب الممدوحون في سماعها؛ لما تمثّله من صورة مثالية تتطاول الأعناق للوصول إليها، ولعلّ من أنسب المعاني في هذه المناسبة المعاني الدينية، وما يرتبط بها من عدل وورع، فإن أصدق معاني المديح عند المسلمين ما اصطبغ بالصبغة الدينية؛ لا سيما أن الأندلسي كان شديد الاعتزاز بإسلامه، لما بينه وبين الدويلات المجاورة من العداء المستحكم والخصام الشديد، قال ابن الخطيب:
إمامُ عدلٍ بتقوى الله مشتمل
يا خير مَنْ خلصت لله نيّته
فَلْيهن دينُ الهدى إذْ كنتَ ناصرَه
في الأمر والنهي يرضيه يراقبـه
في الملك أو خطبَ العلياء خاطبه
أمْنٌ يواليه أو خوْف يجانبـه
ولم يترك الشعراء فرصة تفوتهم دون أن يؤكدوا انتساب ممدوحيهم من بني الأحمر - مثلاً- إلى الأنصار الذين نصروا محمداً -عليه السلام- وآووه، وآثروا المهاجرين على أنفسهم، فلا يجد الشاعر مدحاً لهم أكثر من انتسابهم إلى الأنصار؛ وما لهذا النسب من بُعد تاريخي وديني، واتصالٍ بالنبي -عليه السلام- في نصرتهم له بعد أن هاجر من مكّة إلى المدينة المنورة، فضلاً عن دورهم في إيواء الرسول -عليه السلام-، ومؤازرته في تبليغ رسالته، ومساندة الدعوة التي بشّر بها بتثبيت دعائمها، وهو ما يمكن أن يؤصل إحساس هؤلاء السلاطين بأن انتماءهم هو الذي هيّأ لهم الشرعية الدينية والسياسية والاجتماعية، وأن هذا الانتماء هو أصل فخرهم، وأساس مكانتهم السياسية المتميزة؛ لما يدركه الشعراء من عمق إيمان السلاطين بشرف انتسابهم إلى الأنصار وقُدسية هذا الانتماء، وأن الآصرة الدينية قاعدة راسخة في الوحدة الإسلامية مهما بلغت الأواصر الأخرى من منزلة في النفوس، قال عزيز بن يشت:
أعظم بأنصار النبيِّ وحزبـه
مَنْ مثلُ سعدٍ أو كقيسٍ نجلهِ
أكرم بهم وبمن أتى من سرِّهم
مَنْ مثلُ نصرٍ أو بنيه ملوكنــا
بمحمّدٍ نجل الخليفة يوســفٍ
وبمنْ أتى بعباده يتعلّــقُ
عَرْفُ السيادة من حِماهم ينشقُ
عزَّ النظيرُ فمجدهم لا يُلحــــقُ كلُّ
الملوك بعزِّه يتملقُ
عزَّ الهدى فَحِماه ما إنْ يُطـرقُ
كما أشار الشعراء إلى تمسّك السلطان بروح الإسلام وتعاليمه، يجتمع إلى ذلك قيم الحلم والشجاعة والسخاء وسداد الرأي، وما يمكن أن يندرج في سمات النموذج الاجتماعي والأخلاقي الأمثل، ولأن هذه المعاني تقع في نفس الممدوح موقعاً حسناً، فهي سهلة الوصول إلى قلبه لقوّة تأثيرها.
ومن معاني المديح السلطاني الشجاعة مقرونة بشرف النسب وأصالته، مع ما في ذلك من إغاثة المستغيث، وإجارة الملهوف، قال ابن قطبة الدوسي في مديح محمد الخامس:
ملك إذا هزّ القناة بكفّه
من آل نصر خير أملاك الورى
قوم إذا نادى الصريخ بأرضهم
كانت صدور عداته مأواها
سادوا البرية كهلها وفتاها
طارت خيولهم وخفّ وناها
إن اختيار معاني المديح في هذه الصورة له علاقة وطيدة بما يرمي إليه الشاعر؛ وهو إبراز ما يجب أن يتسم به الممدوح؛ ليكون مؤهلاً للاحتفاء بمولد سيد الخلق -عليه السلام-، وينسجم مع ما يجب أن يكون عليه الممدوح؛ ليكون خليقاً بالقيام بأمور الدعوة الإسلامية، وخلافة الرسول الكريم في نشرها والدفاع عنها.
ومن الشعراء مَن استغل هذه المناسبة فوجدها فرصة مواتية للطلب من الممدوحين، لتحقيق مكاسب دنيويّة، أو استرداد مكاسب افتقدها بعضهم من قبل؛ إذ إن هذا الأمر لم يكن متاحاً في الجزء المخصّص للمديح النبوي من القصيدة، حيث وقفوا شفاعتهم إلى الرسول على ما لم يكن مطلباً دنيوياً، قال عزيز بن يشت:
مولاي يا أسمى الملوك ومَنْ غدتْ
لا تقطعوا عني الذي عدّدتـم
لا تحرموني مطلبي فمحبّتــي
فانعم بردي في بساطك كاتبـاً
عينُ الزمان إلى سناه تحــدّقُ
فالعبدُ مِنْ قَطْع العوائد مشفـقُ
تقضي لسعيي أنه لا يخفــقُ
وأعِدْ لما قد كنتُ فهو الأليقُ
ويبدو أن الشاعر قد فقد وظيفته عند الممدوح وهي الكتابة التي تعدّ من أشرف الصنائع، التي حرص الأدباء على الوصول إليها؛ لما لها من منزلة رفيعة، وما تمثّله من وجاهة، إذ استغل الشاعر هذه المناسبة للطلب من الممدوح إعادته إلى سابق عهده، بعد أن استوفى معاني المديح التي تقع في مساقط التأثير عند الممدوح.
بيد أن الشعراء بوجه عام لا يبحثون عن مثل هذه المكاسب والأعطيات صراحة، ويكتفون بما هو مضمّن بالقصيدة ذاتها.
البناء الفني: الخصائص العامة والأسلوب
اتسمت قصيدة المولد النبوي بسمات لها خصوصيتها التي تميزها من الشعر الأندلسي والمغربي بعامة، وعلى الرغم من ذلك فإن الشعراء لم يستطيعوا التخلص من سمات شعر بيئتهم بشكل كامل، بل تركت تلك البيئة الشعرية آثارها على أسلوب شعرهم وصياغته، فقد كانوا يعمدون إلى التورية حيناً، ويصطنعون البديع وضروبه حيناً آخر، دون أن يكون ذلك على حساب الصورة التي بُني عليها هذا الغرض من أغراض الشعر الأندلسي والمغربي.
فإن النفحة الصحراوية والديباجة البدوية واضحة في هذا الغرض من الشعر في لغته وصوره وأسلوبه، فقد ظلّت نظرة الشعراء شاخصة نحو الخصائص العامة في عصر ما قبل الإسلام وعصر النبوّة، مع انفتاحٍ على الشعر العربي في الأندلس، بمعنى انطلاق من شعر الأوائل وانفتاح على شعر الأندلسيين في عصوره المتأخرة.
وامتازت القصيدة المولدية بالإطالة، ولعل مظاهر هذه الإطالة نابعة من أن الشعراء كانوا يفصِّلون في ذكر معجزات الرسول الكريم، ويكثرون من الإشادة بفضائله ومكارمه بين الناس والأنبياء، فضلاً عن الإشادة بمكارم السلطان الذي أحيا تلك الليلة. ونظراً لذلك فإنّ الغني بالله محمداً الخامس طلب من الشعراء عدم الإطالة بمدحه، والإحاطة بمكارمه وصفاته؛ تكريماً لصاحب المناسبة، وتعظيماً لتلك الليلة، وبذلك فإن من أهم ما نلمحه في هذا الجانب أن الشعراء ظلوا يدورون حول المعاني ذاتها، واستنفدوا طاقاتهم فيها حتى لم يعد المرء يرى معنى مبتكراً، إلا من خلال صورة فنية مستحدثة، أو ما نلمحه في وسائل التعبير عن هذه المعاني.
وامتازت قصيدة المولد النبوي بوحدة الموضوع، وتماسكها، على الرغم من تعدّد عناصرها "فإن أشواق الشاعر وتلهّفه هو الخيط الرفيع الذي يربط بين عناصر القصيدة المولدية ابتداء من المطلع. .. ومروراً بمدح الرسول. .. وانتهاءً بمدح الأمير المتفاني في حب الرسول"، فضلاً عن المناسبة التي قيلت فيها القصيدة، وما تتطلبه من تنوّع في مضامينها.
ونكاد لا نلمح في شعر المولديات أثراً للتكلُّف في الصياغة، أو تصنّعاً في الأسلوب، أو تقعّراً في اللغة، بل نجده يتميز بوضوح العبارة، والرصانة، ووقار اللغة، ومتانة الأسلوب الذي تطبعه الصنعة المقبولة بل المحمودة بمهارة استخدامها، وحلاوة تنسيقها، كما امتزج الباعث الموضوعي بالانفعال الإنساني، واستثمر الشعراء في قصائدهم الجهد الإبداعي؛ لإيصال الغرض الشعري إلى المتلقّي من خلال استثارة مشاعره، وانبهاره الفطري بالأداء الجمالي في النص.
ويميل الشعراء إلى تحويل الخطاب في مولدياتهم من الغيبة إلى المباشرة، فقد كان الشائع عند شعراء المدائح النبوية مخاطبة الرسول بضمير الغائب، وهو ما استعمله شعراء المولديات في الإخبار عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولكن أكثر ميلهم كان في استعمال ضمير المخاطب، فيكون الحديث موجهاً للرسول، وليس عنه، وهو ما جاء في مناجاة الرسول بدلاً من الإخبار عنه، قال الشاعر الطيب أبو عبدالله بن سودة:
يا خير من علق المسيء بحبله
ما لي سواك وإن أسأت جنايــة
إنْ لم تكن لي في معادي شافعاً
وضفا عليه من رضاه قبـــولُ
الحلمُ أوسعُ والعطاء جزيــــلُ
من عثرتي من ذا سواك يقيلُ
وقال ابن زرقالة:
يا سيّد الأرسال يا من قد هدى
بك أستجير من العذاب فلم أكن
نهج الرشاد وبلغ التنزيــــلا
أخشى بحبك في الحساب ذهولا
ففي ذلك نجد أن الشعراء وجهوا الخطاب إلى شخص الرسول الكريم، وقد أفادوا من أسلوب النداء الذي أفاد معنى الرجاء، والتذلّل.
اللغــــة:
تعدُّ اللغة واحدة من المؤثرات النصّية في القصيدة المولدية؛ إذْ يعتمد الشعراء على جزالة الألفاظ ووضوحها، بحيث لا تجعل المتلقي يشعر بشيء من القلق والانزعاج؛ لعدم حاجتها إلى شروح لغوية. كما اعتمدوا على قصدية المفردات عند اختيارها بما ينسجم مع الغرض الشعري المقصود، فإن ما وصل إلينا من شعر المولديات يبين أن الشعراء قد تأثّروا بلغة الأدعية والابتهالات، وأن لغتها أدخل في كلام العرب من لغة أغراض الشعر الأخرى، فقد اتسمت بالقوة والجزالة، والبعد عن الحوشي والغريب والمبتذل، وتجلّت فيها سيماء الهيبة والوقار، كما ابتعدت عن ألفاظ السخرية والتوبيخ، وانحازت في بعض مظاهرها إلى ألفاظ التلوّم النفسي، ومراجعة الذات بما يضفي عليها مسحة حزينة، قال ابن قطبة الدوسي:
نفس تطيع مدى الزمان هواهــــا
كم ذا التشاغل والزمان قد انقضى
تمسي وتصبح في الضلال كأنـها
يا ليت لي نفساً تعار سواهــا
والشيب أقبل ناصحاً ينهاهـــا
عمياء لا تُهدى سبيل هواهــا
فإن هذه الأبيات مشحونة بالألفاظ الدالة على التلوّم النفسي، ومناجاة الضمير، ومحاسبة الذات على ما لم تقم به من واجب العبادة والإيمان، حيث اعتمد الشاعر على الألفاظ التي تعبّر عن مدى تأنيب الضمير لديه من مثل: (الهوى، الضلالة، الشيب، عمياء) فضلاً عما في أسلوبي النداء والاستفهام الإنكاري من عمق دلالة أغنت النص.
وقال أبو زكريّا بن خلدون:
واخساري يوم القيامة إنْ لم
لم أقدّم وسيلة فيـــه إلا
يغفِر الله زلّتي واجتراحــي
حبّ خير الورى الشفيع الماحي
وألفاظ اللوم والمحاسبة واضحة في اختياره (واخساري) و(زلتي واجتراحي) (لم أقدّم وسيلة) وكلها ألفاظ تحمل دلالة اللوم ومحاسبة الضمير، وتبدو الألفاظ واضحة لا يصعب التقاط دلالتها الثانية؛ وبذلك فإن سهولة الألفاظ ودلالتها المعجمية في النص لم تقف حائلاً دون إغنائه بدلالات أُخرى، وتوظيفها في السياق الشعري. وقد عضّدها بأسلوب التفجّع الذي يحمل دلالة الألم والحزن على التقصير في جنب الله تعالى.
ويترك الشاعر لنفسه حرية استعمال اللغة بما يوفر لها حظاً وافراً من الشعرية، وما ينبثق عنها من ألوان البديع المختلفة، قال أبو إسحـاق بن الحـاج:
وحيث العقيق وقد صغته
من الدّمع والى عليه انسجاما
والشاهد في ذلك (العقيق) وهو مكان في الديار المقدسة، والعقيق أيضاً من الأحجار الكريمة لونه أحمر، يشير به إلى البكاء دماً بدمع العين، وهو ما أشار إليه في الشطر الثاني، فيما يسمى بالاستخدام عند البلاغيين.
وقد استعمل الشعراء لغة التضاد أو الطباق، لبيان منزلة ليلة الميلاد وأثرها على المسلمين، وكذلك أثرها على الكفّار، قال ابن زمرك:
وبليلة الميلاد كم من رحمــة
أمسى بها الإسلام يشرق نوره
نشر الإله بها ومن نعمـــاء
والكفر أصبح فاحم الأرجاء
فقد أفاد الشاعر من خاصية الطباق في البيت الثاني؛ للتعبير عن صورتين متقابلتين تخصّان معنى شعرياً واحداً "حيث إن فضلَ الشاعر يتركّز في الأحكام المحكمة للغة، وحُسن اختيار الكلمات، وليست مهمته في أن يقول ما لم يقله أحد. .. وأن يبلغ خير الأساليب التعبيرية، ويحكم ضروب الإيقاع، والأصوات، والانسجام".
ومن روافد لغة المولديات اعتماد الشعراء على القرآن الكريم الذي يعدّ النبع الصافي للغة الشعراء، وهي أليق ما تكون في هذا الغرض من أغراض الشعر؛ لما فيه من جانب ديني شكّل عماد القصيدة المـولدية، قـال ابن خلـدون:
خرّت لمولده الأوثان خاشعةً
وانقضّت الشهب رجماً للشياطين
فقد أفاد من الآية القرآنية الكريمة )وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ(، مع التصرف في إعادة صياغة النص القرآني ليتلاءم مع النص الشعري، دون أن يبتعد عن دلالة النص الأصلي.
وقال لسان الدين بن الخطيب:
مثّل الله نوره في المثاني
بمثال المشكاة والمصباح
فقد أفاد من الآية الكريمة: )اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ (، مع تحوير في بعض ألفاظها بما يتناسب مع السياق الشعري. وفيها – كما في نظيراتها - ما يؤكّد وجود علاقة وثيقة كامنة بين ألفاظ اللغة المنتقاة من النص القرآني، وبين لغة النص الشعري، جيء بها عن وعي وقصد؛ لتشكل هذه اللغة أداة تعبيرية مساندة، وعنصراً بنائياً فاعلاً في نسيج القصيدة اللغوي.
كما أن انتشار التصوّف في الأندلس والمغرب سلوكاً وفكراً قد أشاع اللغة الصوفية في معجم اللغة الشعرية بشكلٍ تبدو معه أكثر حضوراً من غيرها في الخطاب الشعري؛ لتميّز هذه اللغة بالحيوية وانسجامها داخل السياق النصي للقصيدة؛ إذ تُقرأ هذه اللغة في السياق بتأويلين: أحدهما ديني صوفي، والآخر غزلي أو خمري، ولهذا فإن الدلالة الدينية أو الغزلية للمفردات لا تتبين من المعنى المعجمي المباشر للمفردة، أو في الجملة الشعرية، وإنما في سياق القصيدة كلّها، في مثل قصيدة عزيز بن يشت التي نحا فيها منحى المتصوّفة، ومطلعها:
القلب يعشق والمدامع تنطقُ
برِحَ الخفاء فكلُّ عضوٍ منطقُ
بيد أننا لا نعدم وجود بعض المفردات التي تصل إلى المستوى الاصطلاحي عند المتصوّفة، وأدّت دورها في البناء الشعري من حيث المضمون والإيقاع بصورة تبدو معها متلائمة مع غيرها من العناصر الأخرى، مثل القطب في قول أبي جعفر بن عبد الملك:
قطب لغرّ فعاله ومقاله
حِكم تدور عليه والأحكامُ
فقد أدار هذا البيت على القطب الذي تجتمع حوله الأشياء، ويكون هو مركز انجذابها، ومصدر قوّتها، مستفيداً من المصطلح الصوفي (القطب) الذي يعني عند المتصوّفة مَنْ بلغ أعلى المقامات في ترتيبهم المقامات أو الحالات التي يمرّ بها الصوفي.
ومثل النفس الأمّارة في قول ابن قطبة الدوسي:
تعساً لها خدّاعة أمّارةً
بالسوء لا يُعدى على عدواها
فبالرغم من أن المعنى الاصطلاحي (النفس الأمّارة) مباشر إلا أننا نستطيع أن نتبيّن المعنى السياقي للنص من خلال ما اصطلح عليه المتصوّفة في ترتيب النفوس (المطمئنّة، اللوّامة، الأمّارة. ..)، إذْ أفاد الشاعر من هذا المصطلح للتعبير عن مدى انزعاجه من نفسه، بالدعاء عليها بالهلاك؛ لما تغويه بأمور تفضي به إلى الهلاك، فتحول بينه وبين الصفاء وأداء واجب العبادة تجاه الخالق سبحانه وتعالى، حيث لا سبيل إلى الخلاص من شرورها لما فيها من قوّة سحرية في التأثير. وقد عضّد ذلك بصيغة المبالغة (خدّاعة، أمّارة) لبيان شدّة هيمنتها عليه، وتلوّنها في إغوائه.
الصورة الشعرية:
ظلّت الصورة الأدبية تمتح تفصيلاتها من الحياة التي كان يعيشها العرب في فترة النبوّة، صحراوية الملامح والسمات، بيد أن أثر البيئة الأندلسية الفاتنة ألقت بظلالها على شعر المولديات، فظهرت ملامحها في الصورة الشعرية جنباً إلى جنب مع الصورة الصحراوية، والمعاني البدوية، التي ظل الشعراء يتعاورونها، فمن الصور الصحراوية قول أبي إسحق بن الحاج:
بعوج ٍ ضوامرَ مثل القسيّ
تسرّد للبيد منّا سهاما
فقد استحضر الشاعر صورة صحراوية تتمثل بتشبيه وسائل التنقل والترحال بالقسي في ضمورها ودقة صنعها، وهي أفضل ما تكون عليه الراحلة. ولعلّ مردّ رجوع الأندلسيين في أساليبهم وأفكارهم إلى الأفكار والأساليب البدوية القديمة "إلى أن العرب من أشدّ الأمم عصبية وحنيناً إلى وطنهم وعيشهم الأوّل، إذْ كانوا لا يزالون يميلون إلى أخيلتهم الأولى".
ومن الصور التي عكست بيئة الأندلس الزاهية في شعر المولديات ما قاله ابن الخطيب:
جادَ عهد الهوى من السُّحب هامٍ
كلمّا أخْضَلَ الربوعَ بكـاءٌ
مُسْتهلّ الوميض ضافي الجنـاحِ
ضحكتْ فوقها ثغور الأقاحــــي
فهذه الصورة مستمدة من معطيات البيئة الأندلسية ومظاهرها الحضارية، المتمثّلة بكثرة الأزهار والنواوير وتفتّحها، وقد أقامها الشاعر على الاستعارة، بوصفها واحدة من عناصر التشكيلات الجمالية للنص.
ومن الصور التي جمعت بين بدوية الصورة وحضريتها قول ابن الحاج:
ولاحت قُبا والنخيل التي
كمثل العرائس حلّيتــــها
يطيل النسيم لهن انتسامــــا
بدمعي نثاراً وشعري نظاما
فقد شبّه ابن الحاج معطيات البيئة البدوية المتمثّلة بنخيل منطقة (قبا) بمعطيات البيئة الأندلسية المتمثلة بالعرائس وما تتزين به وهي صورة مألوفة عند الأندلسيين في تصوير بيئتهم الفاتنة.
وبذلك فإن الشعراء قد جمعوا في صورهم بين نوعين من الخيال: خيال فرضته الحياة الحضرية التي كان يعيشها الشعراء، وخيال ذهني متعلّق بالموروث البدوي القديم الذي شكّل نسقاًً ثقافياً في موروثهم الشعري.
وإدراكاً من الشعراء ما للصورة الشعرية من أثرٍ فعّال في تقوية خطابهم الشعري، فقد نوّعوا بأنماطها، أداروا بعض صورهم على أسلوب التشبيه المقلوب، وهو أن يجعل الشاعر الأصلَ فرعاً، والفرع أصلاً "ولا تجد شيئاً من ذلك إلا والغرض به المبالغة"، قال أبو القاسم بن حميد:
جادَ الغمامُ بصَوْبه الهتّـانِ
وحكتْ بروقٌ أبرقتْ بجلاله
يحكي انسكابَ الدمعِ من أجفاني
نارَ الصبابةِ والهوى بجنانـي
فإنّ الشاعر شبه صورة المطر المنسكب من الغمام بما يسكبه من دمع أجفانه، أسىً ولوعة وشكوى، على أن مألوف الشعراء في هذا المعنى هو تشبيه انسكاب دمع العين بانسكاب المطر من الغيوم، وكذلك فعل في البيت الثاني، بيد أن الشاعر لجأ إلى هذا النوع من التشبيه للدلالة على المبالغة في توصيف الحالة التي هو عليها في سياق النص.
وكعادة الأندلسيين في الاتّكاء على ما كان يميز حياتهم من حيث دوام الصراع مع أعدائهم، فقد استمدوا بعض عناصر صورهم من ساحات القتال، قال ابن الخطيب:
وكأنَّ الظلامَ عسكرُ زنجٍ
ونجوم الدّجى نصول الرماح
فقد شبّه الظلام بشدّة سواده بعسكر من الزنج، كما شبه النجوم وشدّة ضيائها بلمعان نصول الرماح، وهي معانٍ مستمدّة من معطيات الحروب، وأدوات القتال ووسائله.
كما كان التوجيه بالمصطلحات الدينية المستمدّة من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والسيرة النبوية –رافداً رئيساً من الروافد التي استقى منها الشعراء مادة صورهم، ومن ذلك قول إسماعيل بن الأحمر:
ورجّ به الإيوان لمّا تركّعتْ
شريفاته في حين صلّى جدارها
فقد أفاد الشاعر من كيفية أداء العبادات من حيث الركوع والصلاة، وما فيهما من تعبير عن الخشوع والتذلّل لله سبحانه وتعالى، وبذلك فإن المرجعية الدينية تشكل عنصراً مهماً في البناء الشعري، من خلال المستوى الإيقاعي ومحدّدات التناص التي تحكم النص.
الإيقاع الشعري:
يعدُّ الإيقاع جزءاً رئيساً من عناصر البناء الجمالي في النص الشعري ومساقط التأثير في نفس المتلقي؛ لما له من أثر انفعالي يؤدّيه في النفس البشرية، فهو التشكيل الصوتي للنص بجميع مظاهره: الجناس، رد العجز على الصدر، التكرار، التقديم والتأخير، والترصيع والقافية، وكل ما من شأنه أن يؤدي أثراً صوتياً في النص، لما لهذا التشكيل من إيحاء وقوّة تأثير، "وقد تعددت مناحي الأثر الموسيقي، بين باحثٍ عن رقيٍّ روحي. .. وقاصد انفعال" وقد التزم الشعراء الحدود المقبولة في الاستعانة بالإيقاع في شعرهم، ولم يلجأوا إلى المبالغة في استعماله؛ لأن التعويل عليه دون الالتفات إلى إيحاءاته يكون عبئاً على النص وليس مجمِّلاً له.
ظلت الأوزان التي رصدها الخليل بن أحمد عماد القصيدة المولدية في شكلها البنائي، فلم يتهاون الشعراء في المبنى الشعري: فلا اختلال في وزن، أو عدم استواء؛ إذ لا نقف على شيء يمكن أن ينبئ عن تجديد في شكل القصيدة العام، أو أوزانها، باستثناء ما ورد من إشارة إلى غناء الحميني وهو الشعر الملحون، وهو ضرب آخر من مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي، لم تسعفنا المصادر التي بين أيدينا في الاطلاع على نصوصه.
وقد بنى الشعراء قصائدهم على البحور ذات النفس الطويل في إيقاعها على تفاوت فيما بينها من حيث كثرة الاستعمال، ولم يلجأوا إلى البحور القصيرة، بيد أن أكثر البحور دوراناً في شعر المولديات البحر الكامل؛ لما يتسم به من امتلاء موسيقي، وإيقاعٍ شجي.
ومن بين المؤثرات الإيقاعية في شعر المولديات اعتماد الشعراء على الازدواج أو الترصيع؛ بحثاً عن المستوى الصوتي في النص، وما يرتبط به من تأثير في تأكيد المستوى الدلالي، لا سيما أن هذا النوع من الشعر يعتمد كثيراً على الإلقاء أكثر مما يعتمد على الكتابة المقروءة، ومثال ذلك ما قاله ابن زمرك الغرناطي:
حريص على التقوى خفيف على الهدى
أبرّ مَن استرحمتهُ فترحَّما
إن هذا التقطيع الصوتي يحدث تنغيماً إيقاعياً يُضاف إلى السياج الموسيقي في النص، وهو ما يمكن أن يسمى تكثيف النمطية الإيقاعية في النص من خلال التقابل الإيقاعي بين أجزاء البيت الواحد، يبلغ مدى ذلك بما يسمى ظاهرة الترصيع، حتى يبدو البيت سلسلة من التقطيعات الصوتية المتوالية.
ولعلّ مردّ هذه الموازنة يتعلّق بما تتركه المعاني الموجودة في هذا البيت من أثر طيّب وراحة نفسية، وتوازن عاطفي، يتناغم مع التوازن الإيقاعي بين أجزاء البيت الواحد، حيث أسهم ذلك في تعميق دلالة النص، وتقوية التأثير في المتلقي، فإنّ "للإيقاع الصوتي المؤثّر دلالات بلاغية، لا تقلّ أهميتها عن دلالة الألفاظ، وتزيد أهمية الإيقاع الصوتي إذا تطابقت دلالتها مع دلالة الألفاظ، أو وسّعتها أو أكملتها".
ومن الأدوات الفنية التي حاول الشعراء من خلالها التنويع في الإيقاع الشعري – ردُّ العجز على الصدر، قال أبو البركات بن الحاج في وصف ليلة الميلاد:
واستبشر الأبرار منها بالتي
فبحار أحوال النبي زواخـرٌ
بالقصد منها استبشر الأبرارُ
فاستسقِ منها فالبحار بحــارُ
فهذه الأداة الفنية - كما يبدو من المثال– تؤدي دوراً مؤثراً في إغناء النص، فكأنها رجع الصدى فيه: إيقاعاً ودلالة، وما يمكن أن تمثّله من تكرار لفظي، وتكرار إيقاعي، يحاكي بها نفسية الشاعر المتلهّفة للقاء الرسول الكريم، أو لزيارة ضريحه، والتغنّي بليلة الميلاد.
التكرار:
يعدُّ التكرار أسلوباً من أساليب الفصاحة عند بعض النقّاد، فهو عندهم من "محاسنها لا سيما إذا تعلّق بعضه ببعض"، وهو ظاهرة واضحة في مجمل شعر المولديات، ويحقّق أهدافاً كثيرة في المعنى والتركيب والإيقاع الشعري، ولهذا التكرار بواعثه النفسية والفنيّة، وقد يأتي لغرض بلاغي محض، حيث يكون الشاعر في حال من التوتر والانفعال وهو ينظم قصائده، قال ابن زمرك:
يا حبّذا تلك المعالم والربـا
حيث النبوّة قد جلت آفاقهــا
حيث الرسالة فُصّلت أحكامهـــا
حيث الشريعة قد رست أركانها
حيث الهدى والدين والحقّ الذي
حيث الضريح يضمُّ أكرمَ مُرسل
يا حبّذا تلك الطلول طلــولا
وجهاً من الحقِّ المبين جميـلا
لتبيّن التحريم والتحليــلا
فالنصّ منها يعضد التأويـلا
محقَ الضلال وأذهب التضليلا
وأجلَّ خلق الله جيلاً جيــلا
فقد كرّر الشاعر عبارة (يا حبّذا) للتعبير عن الشوق واللهفة والإجلال، ثُمَّ (حيث) في أوائل الأبيات لما تحمله من الدلالة المكانية؛ ولما لهذه الدلالة من جلال ووقار، ولكي تأخذ بعدها الديني فقد عضّدها الشاعر بما استوحاه من آيات القرآن الكريم التي زادت من جلال المكان ووقاره.
وقال لسان الدين بن الخطيب:
عليك صلاة الله يا خير مرســـلٍ
عليك صلاة الله يا خيرَ راحــــمٍ
عليك صلاة الله يا كاشفَ العَمَى
وأكرم هادٍ أوضحَ الحقَّ والرُّشدا
وأشفقَ مَنْ يَثني على رأفةٍ كبـدا
ومُذهبَ ليل الشكِّ وهو قد اربـدّا
ويتبين من هذا النص جانبان من حيث توظيف التكرار فيه: جانب إيقاعي في توليد الجرس اللفظي في النص، الذي يعطيه زخماً صوتياً متكرّراً، وجانب في الدلالة إذ إن كثرة الصلاة على النبي وإظهار مناقبه في أمته يؤدي إلى كمال محبته وتعظيمه، واتباع شريعته.
وقال أبو جعفر بن عبدالملك:
لولاه ما فُتقتْ بزهْر الزّهر فــي
لولاه ما غطّى على مسك الدّجى
لولاه ما رفعت بجنات العُـلا
غسق بنهر مجرّة أكمـــــام
كافور صبح فُضَّ عنه ختام
سُرُرٌ وما كان السرور مُــدام
وفيه تكرار لفظ (لولاه) في أوائل الأبيات وما يؤديه من تكرار صوتي إيقاعي، وما يؤديه من دلالة الامتناع لوجود، بمعنى لولا وجوده ما كانت الأمور التي ذكرها قد تحققت، وقد جاء بهذا التكرار ليؤكّد هذه السمة للرسول الكريم.
إنّ الوظيفة الفنية التي بدت من التكرار في الأمثلة السابقة جاءت لربط أجزاء النص بعضه ببعض على مستوى الألفاظ من جانب، وعلى مستوى المعاني من جانب آخر، وعلى المستوى الإيقاعي من جانب ثالث، حيث تشكل هذه التكرارات بؤرة تجتمع حولها المعاني المختلفة في القصيدة، بمعنى أنها وظيفة بنائية تبدو في التماسك النصّي للقصيدة من حيث تركيب الجملة الشعرية، والوحدة الدلالية للنص، والإيقاع. وقد أدّت هذه التكرارات إلى جذب أجزاء النص نحو المعنى المحوري فيه، ولم تخرج عنه، حيث تنحصر المعاني في المثال الأول في قدسية المكان، وفي المثال الثاني تنحصر في إظهار مناقب الرسول الكريم، وفضائله، وفي المثال الثالث تنحصر في بيان الحقيقة المحمدية.
وصفوة القول: إِنّ شعر المولديات شكّل ظاهرة أدبية في كل من الأندلس والمغرب العربي، وارتبط ارتباطاً وثيقاً بالاحتفالات التي كانت تقام هناك لمناسبة المولد النبوي، في شهر ربيع الأول من كلّ عام.
وكان ميدان تنافس بين الشعراء، ومناسبة للساسة للتقرّب من العامّة والخاصة، واكتساب ولائهم؛ إذْ خضع هذا الشعر لأحكام السياسة، وسارت القصيدة المولدية في ركابها.
واتسم هذا اللون من الشعر بسمات موضوعية وفنية جعلت منه غرضاً شعرياً قائماً بذاته؛ إذْ جمع بين نوعين من المديح: المديح النبوي الذي يأتي أولاً في بنية القصيدة، ثمّ المديح السياسي، وما يستتبع ذلك من وجود موضعين للتخلّص؛ التخلّص من المقدّمة إلى المديح النبوي، من خلال استحضار مشهد الرحلة في القصيدة العربية الموروثة، ثم التخلّص من المديح النبوي إلى المديح السياسي من خلال صيغة أفعل التعجّب (أفعل بـِ).
وامتازت القصيدة المولدية بوحدة الموضوع، ومتانة الأسلوب، فضلاً عن جزالة الألفاظ ووقارها؛ والجمع بين الصورة الأدبية البدوية، والصورة الحضرية المستمدّة من البيئة الأندلسية.
المصادر والمراجع
- الأبشيهي، شهاب الدين محمد بن أحمد (850 هـ/ 1446م)، المستطرف في كلّ فن مستظرف، تحقيق: مفيد محمد قمحية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1983م.
- ابن الأثير، ضياء الدين نصر الله بن محمد (637هـ/1239م)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت، 1416هـ/1995م.
- ابن الأحمر، أبو الوليد إسماعيل (807هـ/1404م)، نثير فرائد الجمان، تحقيق: محمد رضوان الداية، دار الفكر.
- استيتية، سمير، روافد البلاغة - بحث في التفكير البلاغي– مجلة علامات في النقد، النادي الأدبي، جدّة، ع6، رجب 1422هـ/ سبتمبر 2001م.
- جب، دراسات في حضارة الإسلام، ترجمة إحسان عباس ورفيقيه، بيروت، 1964م.
- جبران، محمد مسعود، مالك بن المرحل أديب العدوتين، تحقيق ودراسة، المجمع الثقافي، أبو ظبي، 2005م.
- جرّار، صلاح، زمان الوصل، دراسات في التفاعل الحضاري والثقافي في الأندلس، وزارة الثقافة، الأردن، 2009م.
- الحموي، ابن حجة (837هـ/1433م) خزانة الأدب، المطبعة الخيرية المصرية، 1304هـ.
- ابن الخطيب، لسان الدين (776هـ/1374م)، ديوان الصيب والجهام والماضي والكهام، تحقيق: محمد الشريف قاهر، الجزائر.
- ابن الخطيب، لسان الدين (776هـ/1374م)، روضة التعريف بالحب الشريف، تحقيق: محمد الكتاني، دار الثقافة، بيروت، 1970م.
- ابن الخطيب، لسان الدين (776هـ/1374م)، الكتيبة الكامنة في من لقيناه في الأندلس من شعراء المائة الثامنة، تحقيق: إحسان عبّاس، دار الثقافة، بيروت، 1983م.
- ابن الخطيب، لسان الدين (776هـ/1374م)، اللمحة البدرية في الدولة النصرية، تحقيق وتعليق: د. محمد زينهم، الدار الثقافية للنشر، ط1، 1425هـ/ 2004م.
- ابن الخطيب، لسان الدين (776هـ/1374م)، نفاضة الجراب وعلالة الاغتراب، الجزء الثالث، تحقيق: د.السعدية فاغية، المغرب، الدار البيضاء. الجزء الثاني، تحقيق: د. أحمد مختار العبادي، دار الشؤون الثقافية، بغداد، دار النشر المغربية.
- ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (808هـ/ 1405م)، التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً، دار الكتاب اللبناني، دار الكتاب المصري للنشر والتوزيع، 1979م.
- ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، تحقيق عبد الواحد وافي، دار القلم بيروت، ط1، 1978م.
- ابن خلكان، شمس الدين (683هـ/ 1284م) , وفيات الأعيان، تحقيق: د.إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت.
- الداية، محمد رضوان، في الأدب الأندلسي، دار الفكر المعاصر، دمشق- بيروت، ط1، 2000م.
- ابن دحلان، أحمد، رسالة في التوسل بالنبي، مطبعة العامرية، القاهرة، 1325هـ.
- الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله (794هـ/ 1391م)، البرهان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1957م.
- ابن زمرك الغرناطي، محمد بن يوسف الصريحي (796هـ/ 1393م)، الديوان، جمعه وقدّم له: د.أحمد سليم الحمصي، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت، ط1، 1998م.
- السعيد، محمد مجيد، الشعر في عهد المرابطين والموحدين بالأندلس، الدار العربية للموسوعات، بيروت.
- سي- دي لويس– الصورة الشعرية، ترجمة: د. أحمد نصيف وآخرون، دار الرشيد، بغداد، ط1، 1982م.
- شبيب، غازي، فن المديح النبوي في العصر المملوكي، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت، ط1، 1418هـ/ 1998م.
- شقور، عبد السلام، الشعر المغربي في العصر المريني (قضاياه وظواهره) منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد الملك السعدي، تطوان، ط1، 1996م.
- صالح، مخيمر، المدائح النبوية بين الصرصري والبوصيري، الدار العربية، عمان، ط1، 1986م.
- ضيف، أحمد، بلاغة العرب في الأندلس، القاهرة، ط1، 1924م.
- ابن عذاري، أبو عبدالله أحمد بن محمد (695هـ/ 1295م)، البيان المغرب في اختصار ملوك الأندلس والمغرب، عني بنشره امبروسي هويدي مراندة مع مساهمة محمد بن تاويت الطنجي، دار كريماديس للطباعة، تطوان، 1960م.
- العزفي، أبو القاسم (677هـ/ 1278م)، الدرّ المنظّم في مولد النبي المعظم، نشره وترجمه إلى الإسبانية: فيرناندو دي لاجرانخا، مجلة الأندلس، العدد 34، 1969م.
- عياض، القاضي عياض بن موسى السبتي اليحصبي (544هـ/ 1149م)، الشفا في التعريف بحقوق المصطفى، دار الفكر، بيروت.
- غرنباوم، غوستاف فون، دراسات في الأدب العربي (الأسس الجمالية في الأدب العربي)، ترجمة: د. إحسان عبّاس، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1959م، ص16.
- قاسم، سيزا، القارئ والنص، العلاقة والدلالة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2002م.
- القرطاجني، أبو الحسن حازم (684هـ/ 1285م)، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق: محمد الحبيب الهيلة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط3، 1986م.
- كنّون، عبدالله، ذكريات مشاهير المغرب، أبو العبّاس العزفي (27)، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1960م.
- لغزيوي، علي، نظرية الشعر والمنهج النقدي في الأندلس - حازم القرطاجني نموذجاً -، فاس، 2007م.
- مبارك، زكي، المدائح النبوية في الأدب العربي، دار الشعب، القاهرة، 1391هـ/ 1971م.
- المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين (346هـ/ 957م )، مروج الذهب ومعادن الجوهر، شرحه وقدّم له: مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1406هـ/ 1986م.
- معن، مشتاق عباس، أساسيات الفكر الصوتي عند البلاغيين، قراءة في وظيفة التداخل المعرفي، حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية، مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، الحولية 27، الرسالة 250، 1427 هـ/ 2006م.
- المقري، أحمد بن محمد (1041هـ/ 1631م)، أزهار الرياض في أخبار عياض، صندوق إحياء التراث الإسلامي المشترك بين المملكة المغربية والإمارات العربية المتحدة، الرباط، 1398هـ/ 1978م.
- المقري، أحمد بن محمد (1041هـ/ 1631م)، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق: د. إحسان عبّاس، دار صادر، بيروت، 1968م.
- الموسى، د. فيروز، المقدمة الغزلية للمدحة النبوية الأندلسية، مجلة مجمع اللغة العربية الأردني، العدد 57، 1420هـ/ 1999م.
- النبهاني، يوسف بن إسماعيل، المجموعة النبهانية في المدائح النبوية، دار الفكر.
- أبو هلال العسكري، الحسن بن عبدالله بن سهل (395هـ/1005م)، كتاب الصناعتين، تحقيق: محمد البجاوي، محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، ط2.
- ابن الهيتمي، الإمام شهاب الدين أحمد بن حجر (954هـ/1547م)، شرح ابن الهيتمي على متن الهمزية في مدح خير البرية للإمام البوصيري، المطبعة الخيرية، مصر.
0 Comments
Silahkan meninggalkan saran dan masukan terkait blog ini. Semoga bermanfaat. Terima kasih.