عيد ‏الفطر ‏في ‏الأندلس




هكذا كان يحتفل المسلمون بعيد الفطر في الأندلس
------------------------------------------------------------------

حين تبلغ الحضارة أوجها؛ ينعكس رخاؤها على كل تفاصيل الحياة، صغيرها وكبيرها، بدءا من القصور الفخمة وحتى بهجة الزهور العطرة في الحدائق وأمام المنازل تسر الناظرين. التقرير التالي يأخذنا في رحلة تخيلية جئنا بها من كتب التاريخ، والتراجم والآثار، التي دونت طقوس الاحتفال بالأعياد الإسلامية في الأندلس قديمًا.

• هلالٌ يشبه المحبوب
كان لاستطلاع هلال شوال في الأندلس أجواء واحتفالات خاصة؛ وقد استغل بعضُ الشعراء هذه المناسبة للتغزُّل بمحبوبيهم وتشبيههم بالهلال المنتظر، على شاكلة أبي الحسن بن هارون الشنتمري الذي قال:

يَا لَيْلَةَ الْعِيدِ عُدْتِ ثَانِيَةً          وَعَادَ إِحْسَانُكِ الَّذِي أَذْكُرْ

إِذْ أَقْبَلَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَى        هِلاَلِكِ النِّضْوِ نَاحِلًا أَصْفَرْ

وَفِيهِمُ مَنْ أَحَبَّهُ وَأَنَا             أَنْظُرُهُ فِي السَّمَاءِ إِذْ يُنْظَرْ

فيما استخدم بعضُ الشعراء من هلال عيد الفطر مادةً في شعرهم، مثل ابن السيد البطليوسي الذي شَبَّه شوقه إلى فرس كان ملكًا للظافر عبد الرحمن بن عبد الله بن ذي النون بتشوق الناس لرؤية هلال الفطر:

كَأَنَّ هِلاَلَ الْفِطْرِ لاَحَ بِوَجْهِهِ          فَأَعْيُنُنَا شَوْقًا إِلَيْهِ تَمِيلُ

وما أن يعلن رؤية هلال شوال، حتى تسري روح الفرح بين الصغار والكبار، وتتحول الحدائق الغناء والميادين الجميلة إلى ساحات احتفال، تستقبل منذ ساعات البكور الرجال والنساء في طريقهم لصلاة العيد في الحلل الملونة والروائح العطرة، وتتحول مدن أشبيلية وطليطلة وغرناطة وقرطبة وليون وقشتالة، وسرقسطة ولشبونة وبلنسية وبرشلونة ومجرِيط (مدريد الآن)؛ وغيرها من حواضر الأندلس، إلى ساحات تجمع بين الشعراء والأدباء والفرسان والأمراء، يمشون جنبًا إلى جنب مع الأطفال والفتيات يحتفلون بيوم العيد، ويسعدون بتلقي «العيديات» والهدايا من الكبار.

• روح رمضان في أعياد الأندلس
نحن الآن في الأندلس، خرج المسلمون لتوهم من شهر رمضان، وكان فيه الصائمون «يخصصون ساعات الصباح للعمل، ثم حين تشتد الحرارة وقت الظهيرة يخلدون إلى النوم والراحة، وبعد تناول وجبة الإفطار تدب الحياة في المدن والقرى بالأندلس وتفتح المتاجر ويتجول باعة «الحلوى» والمشروبات الطازجة عبر شوارع المدينة، ودروب الأحياء، أما في ليلة السابع والعشرين فكانت تضاء المساجد وتمتلئ بالمؤمنين المصلين، ويوم العيد بعد الصلاة، يتبادل المسلمون التهاني والتغافر، ويقومون بزيارة الأقارب، وصلة الرحم، ويظهر الناس البهجة من خلال ما يعدونه من مأكولات، وما يلبسونه من جديد الثياب وأجملها».

حتى أن القاضي محمد بن عبد الله المعافري الإشبيلي، نظر ذات يوم إلى المصلى يوم العيد، ورأى كثرة الناس فيه واحتفالهم وتضرعهم، فأثار هذا المشهد قريحته بهذه الأبيات التي تعكس مدى تأثير الدين وروحه في الوسط الاجتماعي الأندلسي.

إِلَيْكَ إِلَهَ الْخَلْقِ قَامُوا تَعَبُّدًا              وَذَلُّوا خُضُوعًا يَرْفَعُونَ لَكَ الْيَدَا

بِإِخْلاَصِ قَلْبٍ وَانْتِصَابِ جَوَارِحٍ            يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ سُجَّدَا

نَهَارُهُمُ لَيْلٌ وَلَيْلُهُمُ هُدًى                 وَدِينُهُمُ رَعْيٌ وَدُنْيَاهُمُ سُدًى

• احتفالات برائحة «الغالية»
كان المسلمون في غرناطة يخرجون إلى الشوارع والساحات العامة أيام الأعياد، حيث يزدحم الرجال والنساء بعطورهم المصنوعة من ماء الورد (الغالية) ويلعبون برمي البرتقال وأغصان باقات الورود بعضهم على بعض تعبيرًا عن الفرح، فيما تتخلل الزغاريد والأغاني والدبكات تلك الحشود.

إلى هذا المدى كان ابتهاج الأندلسيِّين بقدوم العيد، والمكانة التي احتلَّها في نفوسهم؛ لهذا كانوا يحرصون فيه على ارتداء الثياب الجديدة، كما تُصوِّر أبيات لأبي إسحاق الإلبيري يُعرِّض فيها برجل رآه يوم عيد الفطر يجر ثيابه الجديدة باختيال:

مَا عِيدُكَ الْفَخْمُ إِلاَّ يَوْمَ يَغْفِرُ لَكْ        لاَ أَنْ تَجُرَّ بِهِ مُسْتَكْبِرًا حُلَلَكْ

كَمْ مِنْ جَدِيدِ ثِيَابٍ دِينُهُ خَلِقٌ                تَكَادُ تَلْعَنُهُ الْأَقْطَارُ حَيْثُ سَلَكْ

وَكَمْ مُرَقَّعِ أَطْمَارٍ جَدِيدِ تُقًى          بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَا وَالْأَرْضُ حِينَ هَلَكْ

إلى جانب لبس الثياب الجديدة؛ جرت العادة في مثل هذا اليوم أن يتجه الناس إلى المصلى لأداء صلاة العيد، وأشار الزجَّال محمد بن عيسى بن قزمان الزهري إلى ذلك في حديثه عن عيد الفطر، فقال: «هو هلال الفطر، أو قل: هو هلال العيد، فَلَقَه صباحٌ مشى الناس فيه مشي الحباب، ولبسوا أفضلَ الثياب، وبَرَزُوا في مُصلاَّهم من كل باب».

وأشار ابن دراج إلى صلاة العيد في قصيدتين له، الأولى أنشأها في تهنئة المنصور منذر بن يحيى بعيد الفطر، وفيها يقول:

هِلاَلٌ مَسَاءَ بَاتَ يَضْمَنُ لِلضُّحَى           غَدَاةَ الْمُصَلَّى مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَالْبَدْرِ

والثانية أنشدها في تهنئة المظفر يحيى بن المنصور بهذه المناسبة، ومما جاء فيها:

وَذِكْرٌ وَمِنْهُ الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ هَدْيَهُ          وَجَمْعُ الْمُصَلَّى وَابْتِهَالُ الْمُصَلِّينَا

• عيديات من الشعراء للملوك
عيد الفطر في الأندلس لم يكن يختلف كثيرًا عن أجواء العيد في زماننا هذا، لكن كان هناك بعض العادات التي تتميزّ بها الأجواء خاصة الغرناطية، إذ كان هناك عادة الـ«عيديات» من الشعراء، وهي عبارة عن مسمى يطلق على القصائد يوجههّا الشعراء إلى السلاطين وكبار رجالات الدولة تقدم في العيد، يمتدح بها أولئك الشعراء على رأس كل عيد ملوك زمانهم.

ومن أشهر اصحاب العيديات الشعرية، الشاعر ابن الجياب الذي امتدح بعيدياته الوزير ابن الحكم الرنديّ، وشاعر غرناطة ابن زمرك، الذي كان سخيًا في هذا النوع، فمدح السلطان محمد الخامس الغني بالله، وأنشد قصيدة بمناسبة عيد الفطر، ذكر فيها «العيديات» والهدايا التي قدمها الأمير لزائريه، قال فيها:

عما قريب ترى الأعياد مقبلة      من الفتوح ووفد النصر حاديها

وتبلغ الغاية القصوى بشائرها    فقد أظلت بما ترضى مباديها

فأهنأ بما شئت من صنع تسر به  وانو الأماني فالأقدار تدنيها

مولاي خذها كما شاءت بلاغتها   ولو تباع لكان الحسن يشريها

جاءت تهنيك عيد الفطر معجبة بحسنها ولسان الصدق يطريها

البشر في وجهها واليمن في يدها  والسحر في لفظها والدر في فيها

وأنشأ ابن خفاجة في عيد الفطر قصيدة في مدح الأمير إبراهيم، ابن يوسف بن تاشفين أمير شاطبة سنة 510هـ، هنأه فيها بهذه المناسبة، واستنجزه وعدًا بالعطاء، وختمها بقوله:

وَهُنِّئْتَ عِيدًا قَدْ تَلَقَّاكَ قَادِمًا            وَلَمْ يَكُ لَوْلاَ أَنْ طَلَعْتَ لِيَطْلَعَا

وَحَسْبُكَ جَدٌّ قَدْ أَظَلَّكَ خَادِمًا            فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ تَقُولَ فَيَسْمَعَا

• متعة للعين والروح على مدار الساعة
تستمر الحياة بشكلها الاحتفالي طوال ساعات اليوم، وهناك من يتسابق مع غيره على البقاء يقظًا بلا نوم أو راحة طوال أيام، موزعًا وقته بين الاستمتاع بالأكل والشرب والغناء، أو ركوب الخيول والعربات المزينة بزهور الربيع الأندلسي الصاخبة. وخاصة إن صاحب ذلك الطقس المشمس الذي يميز شبه الجزيرة الأيبيرية التي تعد وجهة سياحية عالمية قديمًا وحديثًا.

وإلى جوار الميادين والحدائق تتمتع عينيك بالطراز الفريد للمعمار الاندلسي، الذي يضفي جمالًا إضافيًا على المدن والقرى، من حيث التنسيق والجمال والنظام والذي تميزت به العمارة الأندلسية الفريدة، بطابعها العربي الإسلامي الذي تكسوه حلل بهيجة من الورود والأزهار، خلال القرون الثمانية التي استمر فيها الوجود العربي هناك. والتي أنطقت الشعراء وأخرجت أجمل المعاني على ألسنتهم كما يصور الشاعر الأندلسي ابن زمرك، بقوله:

يا من يحن إلى نجد وناديها      غرناطة قد ثوت نجد بواديها

قف بالسبيكة وانظر ما بساحتها  عقيلة والكثيب الفرد جاليها

تقلدت بوشاح النهر وابتسمت     أزهارها هي حلي في تراقيها

وأعين النرجس المطلول يانعة      ترقرق الطل دمعًا في مآقيها

وافتر ثغر أقاح من أزاهرها       مقبلا خد ورد من نواحيها

كأنما الزهر في حافاتها سحرًا     دراهم والنسيم اللدن يجبيها

وانظر إلى الدوح والأنهار تكنفها  مثل الندامى سواقيها سواقيها

كم حولها من بدور تجتني زهرًا  فتحسب الزهر قد قبلن أيديها

حصباؤها لؤلؤ قد شف جوهرها  والنهر قد سال ذوبًا من لآليها

نهر المجرة والزهر المطيف به  زهر النجوم إذا ما شئت تشبيها

يزيد حسنًا على نهر المجرة  قد أغناه در حباب عن دراريها

• جولة في طرقات العيد الأندلسي
خلال تجوالك في الطرقات يوم العيد تستطيع أن ترى بوضوح الخيول الأندلسية؛ التي تجمع بين الحصان العربي الأصيل والحصان الأيبيري، الذي استئنس منذ وصول العرب إلى في شبه الجزيرة الأيبيرية التي شهدت معهم مراحل من التألق والازدهار.

وخلال تنقلك بالسير في الشوارع الواسعة أو الحارات المتعرجة الصاعدة الهابطة والمرصوفة بالحجر الملون يتحول الواقع لشيء أشبه بالخيال، فيه متعة للأذن والعين والاحساس. فالشوارع رائعة النظافة، والجدران مدهونة بطبقة بيضاء، والشرفات زاهية الألوان، والزهور تتدلى من مزهرياتها على كل الشبابيك والأبواب. وينتشر الياسمين ورائحته في كل مكان، خصوصًا في فصل الصيف، وخرير الماء نغمة صوتية لا تنقطع، وتصل إلى أذن السائر في تلك الشوارع.

• هذه أطعمة أهل الأندلس في أيام العيد
من أبرز ما يتباهى به الأندلسيون في الأعياد والمناسبات أكلات وحلويات لم تكن معروفة في البلاد قبل مجيئهم، ويتطلب إعدادها إتقانًا ومهارة، وتغلب عليها الفاكهة التي تحلِّيها وجبن العنز الذي يلطفها والزعفران الذي تثير صفرته الشهية إليها. فمنها ما هو مشترك بين القرى الأندلسية، ومنها ما يعرف في إحداها دون سواها اعتبارًا للفروق بين العادات والمنتجات القروية.

فمن المأكولات المشتركة بين أهل الأندلس: المرقة الزَّعراء (أي بالزعفران) والطاجين ويكون بالجبن، والمقرونة التي تُصنعُ في المنزل بلف عجين السميد حول أسلاك الحديد وتجفيفها وتقليعها، ثم طبخها وسقيها وذر الجبن المسحوق عليها، والبناضج (Empanadas في الإسبانية) وهي عجين من السميد محشو باللحم ومطبوخ في الفرن، يُقال إن الأندلسيين عند هجرتهم أخفوا الذهب فيه.

ومن الأكلات المشهورة التي كان الأندلسيون يتبادلونها في الأعياد والأفراح أيضًا «الكاباما» وهي مرقة باللحم والبطاطا المقلية قبل الطبخ، و«الكبكابو» وهي مرقة بالسمك أو اللحم والخضر المصبرة.

هناك أيضًا أكلة تسمى «الكيسالس (Quisalech في الإسبانية)» وتتكون من قطع اللحم الملفوفة تخلط بالبيض والجبن المسحوق. و«عين السنيورة (señora تعني السيدة في الإسبانية)»، وتتكون من عجين مُغطى بمعجون التمر أو الطماطم يقطع إلى مربعات وتوضع عليها بعد أن تحمى في الفرن مع أنصاف البيض المسلوق، وهي أشبه بالبيتزا الإيطالية وتعرف اليوم بالمالح والحلو. وكذلك الفطائر المغموسة في العسل أو محلول السكر.

ومن هذه المأكولات أيضًا «العجة» التي تطورت عما كانت عليه في بلنسية وكاتلونيا، ولكنها بقيت معتمدة على البيض المخلوط بالطماطم، والفلفل، والتوابل على غرار «الشكشوكة العربية».

ومن الحلويات التي كانت تصنع خصيصًا في أيام المناسبات «الصمَصا» ونوع آخر يسمى القيزاطا (نسبة إلى Qijata في البرتغال)، وهو عجين من اللوز وماء الورد، و«كعك الورقة» وهو أشبه بأسورة من عجين مخلوط بالسمن وماء الورد ومحشو بالفواكه، و«الملبَس» وهو حلويات مغموسة في ماء الورد الملون، و«البغريروهو خبز محلى بالسكر.

على هذه الأطعمة والحلويات اللذيذة تَعَوَّدَ الأندلسيون، وكانوا يهدون بعضهم بعضًا منها وخاصة في الأعياد والمناسبات.

Post a Comment

0 Comments